نواعير حماه.. عبق التاريخ وأنشودة لا تنتهي
تشكل نواعير مدينة حماه مصدراً هاماً لإلهام الشعراء بحيث لا يوجد شاعر في حماه إلا وله شعر فيها، ولم يمر شاعر أو زجّال بها إلا وتهيجت قريحته الشعرية فتغنى بها.
حتى أن أمير الشعراء “أحمد شوقي” زار حماه ونواعيرها ومنها ناعورة الدهشة وعند رؤيتها قال: “ليت على النيل نواعير مثلها”، وعندما أخبره “محمد كرد علي” قبل رحلته إليها: “نحن ذاهبون إلى بلد نصف أهله شعراء”، فلما رأى حماه وبساتينها وحدائقها ونواعيرها قال “شوقي: “الغريب ألا يكون النصف الآخر شعراء أيضاً”.
ونظراً لذاك الغنى الجمالي في هذه المدينة الناجم عن وفرة الماء والبساتين الوارفة، فإن الشعراء تفننوا في وصف حماه، وعاصيها، ونواعيرها، وشهد ذلك تنوعاً في فهمهم لعنين تلك النواعير، فمنهم من يراها تبكي فراقاً، والبعض يعتقد أنها تنوء بحملها، وآخرون يرونها تغني طرباً.
ومن ذلك الشعر ما قاله السلطان “سليمان بن سليم” أثناء زيارته لمدينة أبي الفداء: “نواعير في وادي حماه تجاوبت.. فهيجت بالبكا مدمعي القاصي/ وإني على نفسي لأجدر بالبكا.. إذا كانت الأخشاب تبكي على العاصي”.
ولابن نباته قوله: “وناعورة قالت وقد ضاع قلبها.. وأضلعها كادت تُعد من السقم/ أدور على قلبي لأني فقدته.. وأما دموعي فهي تجري على جسمي”.
كما شغلت النواعير حيزاً من التراث الغنائي الحموي الذي يزخر بكثير من المواويل والأغنيات التي تصف النواعير، وتتغنى بها وبأنينها، ومن أكثر الأغاني الشعبية التي درجت على ألسنة الناس: “سمعت عنين الناعورة.. وعنينا شغل بالي.. هي عنينا ع المية.. وأنا عنيني ع الغالي”.
أما المواويل فكان أغلبها “سبعاوياً”، ومنها قول أحدهم: “ناعورة اللي سمعت عنينها ع الماي.. بعنينها جرحت قلبي ومنها زاد ألماي.. عنّت وعنّيت وعليها عنين ألماي.. ناديتها يا حزينة على إيش تعنّي وأنت من خشب.. قالت بعد ما كنت بأعلى خضار وروس خشب.. وبلبل الروض يغنيلي بأعلى خشب.. قصوا جذوري وجابوني لشيل الماي”
كما أن أثر “أم النواعير” امتد إلى كتابات الرحالة الذين جابوا الكثير من المناطق، لكن حماه ونواعيرها شغلت اهتمامهم كثيراً، ومنهم “ابن بطوطة” الذي قال: مدينة حماه إحدى أمهات الشام الرفيعة، ومدائنها البديعة ذات الحسن الرائق، والجمال الفائق، تحفها البساتين والجنات، عليها نواعير كالأفلاك الدائرات، ويشقها النهر العظيم المسمى بالعاصي”.
وكذلك “ابن جبير” عندما ذكر حماه قال: “هي مدينة قديمة الصحبة للزمان، حُسْنُها كامنٌ فيها، بشرقيها نهر كبير تتسع في تدفقه أساليبه، وتتناظر بشطيه دواليبه، وقد انتظمت طرفيه بساتين تتهدل أغصانها عليه، وتلوح خضرتها عذاراً بصفحتيه”.
ولم يقتصر إلهام النواعير على الشعراء والزجالين فقط، بل تعدى ذلك إلى الكثير من الفنانين التشكيلين وفناني التصوير الضوئي، لدرجة باتت إنتاجاتهم أشبه بمعارض دائمة للنواعير برؤى خاصة تختلف من فنان لآخر، نذكر من هؤلاء الفنانين: فؤاد عرجة، سهام منصور، عماد جروة، موريس سنكري، وغيرهم.
وبقيت النواعير تثير جدلاً كبيراً حول هوية صانعها الأول هل هو حموي أم روماني؟ وهل مدينة أبي الفداء هي الرائدة في احتضان أول ناعورة أم هناك مدينة أخرى سبقت حماه لذلك؟
لكن الجدل حُسم بأن هذه النواعير تعود في تاريخها إلى ما قبل الرومان، ودليل ذلك حسب المؤرخ “جورج كولان” أن فيها دوراً للتقنية الآرامية والنبطية الفريدة من نوعها، بحيث لا يدخل في صناعتها المعدن، وإنما ستة أنواع من الأخشاب هي: خشب الجوز، المشمش، التوت، الحور، السنديان، والشوح.
كما أن وجود نواعير في كل من العراق والفيوم بمصر، وفي ألمانيا، وفي الأندلس التي كانت تحت لواء الدولة الرومانية، لا ينفي كون نواعير حماه هي الأقدم والأبقى، فالرومان لم يستفيدوا من هذا الاختراع الحموي إلا بعد وجوده في حماه بمدة طويلة، أضف لذلك أنها مصنوعة بتقنيات مغايرة وأقل كفاءة.
وتكثر الروايات أيضاً حول طريقة دوران النواعير، وإمكانيتها في الري، بحيث يتخلى البعض عن الجانب الهندسي الإبداعي ويعزو ذلك إلى أن لكل ناعورة عفريتاً يسمى باسمها، وهو مسؤول عن دورانها وتوقفها، وكذلك هو صاحب القرار في نقل ماء العاصي إلى البساتين العالية، أو منع ذلك حسب رضاه عن صاحب ذاك البستان أو غضبه منه.
ويرجع البعض هذه المعتقدات إلى قدرة الناعورة على العمل لفترات طويلة دون توقف، إضافة إلى صوت الناعورة في الليل وما له من رهبة لمن لم يعتد عليه، فيتحول هذا الصوت إلى صوت للعفريت ذاته.
لكن القصة لا تخرج عن كونها ترهيباً للأطفال لمنعهم من الاقتراب من الناعورة، مخافة السقوط في الممر المائي ذو التيار القوي تحتها، والمسمى “البيب” والذي سيؤدي حتماً إلى وفاته.
لكن تبقى للحمويين علاقة خاصة بنواعيرهم فهم لا يخشونها رغم كل تلك التحذيرات حتى أنهم بعضهم يلعب معها، فكثيراً ما ترى في الصيف شباناً تعلقوا بإحدى حوافها “شفراتها” صاعدين إلى أعلى نقطة فيها، وبعضهم يلقي بنفسه إلى النهر من ذاك الارتفاع الشاهق أو يواصل دورانه معها، أو قد ينتقل من ذاك الارتفاع إلى القناة الحجرية “النقير”، ومنها يقفز إلى النهر في حركات استعراضية تلفت نظر الناس إليه.
ويضاف إلى وظيفة الناعورة الأساسية في رفع مياه العاصي إلى البساتين المرتفعة أنها تشكل مصدر جذب سياحي هام، وكذلك هي ملتقى لسهرات الحمويين ومسامراتهم على خلفية صوتها العظيم، سواءٌ في الحدائق العامة الممتدة على حواف العاصي كحديقة “أم الحسن”، أو في بعض المقاهي التي اصطفت على جانبي النهر.
ويشير كتاب “الناعورة.. عبق التاريخ وأنشودة المجد” لمؤلفه “محمد الشقفة” أنه من أصوات النواعير يشتق بين 120 إلى 170 نغمة موسيقية، كما يجمل أصوات النواعير في 17 صوتاً هي: العنين، الأنين، الحنين، هتاف الحمام، الغناء، الحداء (وهو زجر الإبل)، الصرير، الأزيز، النواح، البكاء، النغم، النحيب، الشدو، العويل، الزفير، الزئير، الترجيع (الصدى).
يذكر أن حماه تتضمن ما يزيد عن 120 ناعورة حسب إحصائية الباحث “أحمد قدري الكيلاني”، منها عشرين داخل المدينة، وأكثر من مئة خارجها، وتسمى كل من تلك النواعير بحسب المنطقة التي تقع فيها، أو بحسب اسم بستان ترويه.
وأسماؤها داخل المدينة: البشرية الكبرى، والبشرية الصغرى، وناعورتا العثمانيات، وناعورة الجرف، الجسرية، المأمورية، المؤيدية، العثمانية، الجعبرية، الوسطانية، الصاهونية، الكيلانية، الخضر، الدوالك، الدهشة، المحمدية، المقصف، العونية، البركة.
ويبلغ قطر أصغر ناعورة في حماه أربعة أمتار، في حين يتجاوز قطر أكبرها ثلاثة وعشرين متراً، ويتراوح وزنها بين 50 و70 طن خاصةً بعد بللها بالماء.
بديع صنيج- تلفزيون الخبر