“البروكار”.. النسيج الدمشقي الأشهر منذ خمسة قرون
يعد البروكار من أهم الأنسجة الحريرية التي اشتهرت بها دمشق منذ أكثر من خمسة قرون، ويعتمد على شرانق حرير القز ويُنسج على الأنوال اليدوية التقليدية التي توفر لهذا النسيج الرقة والنعومة والهفهفة وتعدد ألوان رسوم الجاكار التي تتطلبها الأسواق العالمية.
استطاعت منسوجات البروكار أن تلبي حاجات الأسواق والأذواق المعاصرة في الأزياء والديكور والمفروشات للصالونات الكبرى والمنتديات إذ يستخدم في الستائر وتنجيد المفروشات، فضلاً عن الملبوسات من فساتين وحقائب، وربطات عنق للرجال.
للبروكار الدمشقي شهرة عالمية وصلت الآفاق على مدى القرون، حتى وصلت إلى القصر الملكي في بيكينغهام في بريطانيا حيث طلبت الملكة البريطانية “أليزابيث الثانية” أن يكون ثوب زفافها من البروكار الدمشقي الموشى بالذهب والفضة وجرت خياطة هذا الثوب في القصر الملكي عام 1947.
يومها تساءل المهتمون عن هوية النول الذي نسج منه هذا الثوب هل هو من معمل النعسان من باب شرقي يوم كان هذا المعمل يضم في جوانحه روائع الصناعات التقليدية الدمشقية ويسوقها لشتى أنحاء العالم، أم أن هذا الثوب من نتاج معمل المزنر الواقع إلى الشرق من باب شرقي بدمشق.
ما هو البروكار؟
البروكار الدمشقي نسيج من خيوط تحيك نفسها بنفسها وهو من الحرير الطبيعي، ومن هذا البروكار ما يدخل في نسيجه خيوط دقيقة من الذهب أو الفضة على أشكال رسوم الطيور والغزلان والراقصات.
وهذا النسيج يتطلب جهداً ووقتاً فالصانع الماهر عليه أن يجلس وراء النول لساعات طوال “لا تقل عن عشر ساعات” من العمل المتواصل كي يتاح له نسج متر واحد من البروكار.
عرفت دمشق هذا النسيج منذ خمسة قرون، وقد واجه خلالها أزمات وعاش فترات ذهبية جعلته على كل شفة ولسان فلا تكاد أسواقه تزدهر ويشتد عليها الطلب إلا ويخبو ذلك الألق ويقل الإقبال عليه، ويتخلى أرباب هذه المهنة عنه، ويخشون على أبنائهم من ممارستهم لها، خوفاً عليهم من الفاقة.
وكان من أكبر الأزمات التي تعرضت لها الصناعات النسيجية في دمشق، وبخاصة البروكار، فقدان المواد الأولية أو عدم توفرها، وقلة اليد العاملة والخبيرة المتمرسة بسبب الحروب والأزمات التي كانت تحل بالبلاد.
نسيج البروكار وبخاصة زخارفه يعتمد على اليد والإبرة أو ما يعرف بـ”الغل” وعندما نشأت الصناعات النسيجية الحديثة في دمشق قام معمل السيد “أنطون مزنر” الكائن شرقي باب شرقي بمحاولة إنتاج بروكار على أنوال حديثة تعتمد على الحرير الصناعي.
وفي عام 1939 جرت محاولة أخرى لتجديد البروكار فاستخدم معمل مزنر الأنوال الميكانيكية لإنتاج البروكار من الحرير الصناعي وأدى ذلك إلى توقف الأنوال التقليدية بسبب مزاحمة الأنوال الميكانيكية السريعة وفيرة الإنتاج.
لكن معمل “سليم وجورج النعسان” في محلة باب شرقي قاما بخطوة جريئة عندما عاودا إنتاج البروكار على الأنوال التقليدية وبالحرير الطبيعي مع بقاء بعض الأنوال التقليدية التي تنتج البروكار من الحرير الصناعي. ساعده في ذلك أهالي حي ركن الدين فكان نول “الأيوبي” نواة معمل النعسان.
وكان من أسباب استخدام الأنوال الميكانيكية في هذه الحرفة تلبية الطلب المتزايد من هذا النسيج عالمياً إلا أن ذلك لم يكن في صالح هذه الصنعة لأن البروكار المنتج آليا لا تتوفر فيه جميع الميزات التي يقدمها البروكار المنتج على النول التقليدي والحرير الطبيعي.
فالنول الميكانيكي يتطلب خيطاً متيناً أثخن من خيط النول التقليدي الحريري بثلاث مرات حتى يتحمل ضربات مكوك النول الميكانيكي، ونتيجة ذلك كان البروكار المنتج في النول الميكانيكي أسمك من الطبيعي وأخشن، فلا يقبل عليه السياح.
كان في أواسط القرن المنصرم عدد من المعامل النظامية لنسيج البروكار وكان أشهرها المعمل الذي أسسه جورج وسليم النعسان في باب شرقي عام 1860 وهي معامل تقليدية تعتمد الحرير الطبيعي.
ويضم هذا المعمل معرضاً دائماً لأروع ما تنتجه دمشق من الصناعات التقليدية وبخاصة المنسوجات الدمشقية العريقة من البروكار والدامسكو والأغباني حتى أن الزائر كان يستطيع أن يشاهد بأم عينه العمال وراء أنوالهم ووراء طارات تطريز الأغباني.
يأتي بعده معمل الرنكوسي في جسر تورة ويستعمل الحرير الطبيعي على أنوال ميكانية، أما معمل مزنر فكان ينسج البروكار على أنوال تقليدية ثم تحول إلى الأنوال الميكانيكية.
أما عن أنواع البروكار وزخارفه فتختلف باختلاف العناصر المستعملة مع الحرير، فمن البروكار ما هو عادي “سادة” إلا أنه ملون، وترتبط هذه الالوان بالأذواق التي تختلف من دولة لأخرى فلكل مجتمع لون مفضل فالألمان مثلاً يفضلون اللون الأزرق البروسي والسويديون يرغبون بلون الكريم “الزهر الفاتح” والأمريكان يرغبون الألوان الرمادية.
من البروكار ما هو مقصب بخيوط ذهبية أو فضية، وقد تكون تلك الخيوط من معدني الذهب والفضة، ودور هذه الخيوط ينحصر في الرسوم وأشكال النسيج التزينية التي تشمل أشكالاً آدمية وراقصات ومنها ما هو نباتي أو حيواني كالفيل والغزلان والطيور.
وقد تجتمع هذه الرسوم في مهاد نسيج واحد، فيكون هذا النوع متعدد المواضيع حتى أنك قد لا تستطيع تمييز الموضوع إلا بجهد، وفي بعض القطع الأخرى تكون النقوش هندسية بسيطة.
أما اليوم فمن المؤسف القول بقلة أعداد الأنوال التقليدية التي تعتمد الحرير الطبيعي، إذ لم يبقى منها سوى النول الموجود حالياً في مركز مدرسة “عبد الله باشا” قريباً من متحف التقاليد الشعبية بدمشق، وهناك نول آخر في سوق المهن اليدوية.
بديع صنيج _تلفزيون الخبر