حي الصالحية الدمشقي.. كيف تحولت سينما إلى مجلس شعب؟
انطلاقاً من ساحة المحافظة بدمشق وأنت تسير باتجاه مجلس الشعب ستشعر منذ بداية دخولك بأن أصبحت ضمن عوالم مختلفة، فبوابة الصالحية أشبه بانطلاقة إلى الحي الذي اختلفت معالمه كثيراً منذ تأسيسه قبل حوالي الألف عام.
حي الصالحية كان مدينةً خارج أسوار دمشق القديمة، ولم يكن مقتصراً على السوق المرصوف الحالي، إذ يستمر صعوداً على سفح قاسيون من ساحة عرنوس باتجاه الجسر الأبيض وصولاً إلى المهاجرين وحي محي الدين ابن عربي وركن الدين وغيرهم.
وعلى الرغم من الصبغة التجارية للحي الآن، حيث محلات بيع الألبسة والأحذية والمأكولات وغيرها، إلا أن أصل الحي كان مدينة للعلم، إذ تجاوزت فيه المدارس المئة، كما كان مقراً “للأولياء”، ومنها انطلق عدد من المذاهب الدينية كالحنبلية، وأيضاً تميز بمدافن المتصوفة كابن عربي، والشيخ عبد الغني النابلسي.
نشأة حي الصالحية كانت في القرن الثاني عشر الميلادي أيام نور الدين الزنكي (الشهيد), ففي عام 1156 رحل الشيخ “أحمد بن محمد بن قدامة” سراً ومعه ثلاثة من أهله من مدينة نابلس قاصدين دمشق هرباً من الحرب، ونزل الثلاثة في مسجد أبي صالح خارج الباب الشرقي وكانوا بضيافة بني الحنبلي.
لم يهدأ بال الشيخ المقدسي حتى أرسل إلى أهله وأولاده رسالة يدعوهم فيها إلى الهجرة “فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم”، فاستجابوا له وهاجر أولاده وبناته وأصهاره حتى بلغوا 35 شخصاً والتحقوا بشيخهم ومكثوا في هذا المكان أربع سنوات.
وماكان من الملك نور الدين، إلا أن أمر بنزع الوقف من بني الحنبلي وتسليمه إلى بني قدامة، ولكن الشيخ المقدسي رفض ذلك وقال: “لم أهاجر من بلادي لأنافس الناس على دنياهم، ما بقيت أسكن ههنا”، فذهب الشيخ يطلب مكانا آخر له ولأهله.
واستقر به الأمر على سفح قاسيون في دير يملكه رجل يدعى “أحمد الكهفي”، وأُعجب “بن قدامة” بالمكان بسبب بعدِهِ عن دمشق وخلوهِ من السكان، ومن حينها بدأ الناس يتوافدون على المكان وكان جلّهم من أهل الصلاح فدعيت بالصالحية.
في ذلك الزمان بني في حي المهاجرين أول جامع (الحنابلة) كما بنيت أول مدرسة هي (العمرية)، اتسعت بعدها ضاحية الصالحية في أيام الدولة الأيوبية، إذ زاد عدد المدارس حتى بلغت العشرات، وتحولت المنطقة تدريجياً إلى معقل للعلم، وسمي أحد أحيائها لكثرة مدارسه بحي المدارس.
وفي عام 1248 بني البيمارستان القيمري وسط سوق الجمعة الآن، ويدل بناء هذا المستشفى الكبير في حي الصالحية على درجة التطور العمراني للمنطقة، استمر استعمال البيمارستان القيمري كمستشفى حتى أواسط القرن الماضي، واليوم تقام فيه محاضرات ونشاطات.
وعند دخول الأتراك دمشق كان السلطان العثماني سليم الأول شديد الإعجاب بآراء وتعاليم الشيخ محي الدين بن العربي وطريقته بالتصوف فأمر ببناء مسجد بجانب ضريح “سلطان العارفين” وسمي بالجامع السليمي وأنشأ مقابله تكية كمطعم للفقراء, وتدعى التكية السليمية.
لم تتوقف حركة التوسّع والتجديد العمراني في الحي، وظل موقعه المهم يلفت الأنظار، حتى باتت الصالحية ملاصقة لبقية أحياء دمشق، واندغمت معها.
وأصبح حي الصالحية من أغنى الأحياء الدمشقية، وبسبب نسبها غير الدمشقي، كانت الصالحية أكثر تقبلاً، لاستقبال الوافدين الجدد، فكان أهل دمشق ممن سافروا إلى الغرب، أو درسوا في جامعات أوربية، يفضلون سكن الصالحية حيث يبنون بيوتهم على النمط الغربي، ويخلعون طربوشهم وشروالهم ويلبسون البرنيطة والبنطال.
في عام 1916، أنشئت أول دار للسينما في دمشق في شارع الصالحية سميت سينما “جناق قلعة” تخليداً لذكري انتصار الأتراك على الأسطول البريطاني في مضيق “جناق قلعة” الذي يصل البحر الأبيض المتوسط ببحر مرمره، لكنها احترقت بعد شهر لا أكثر.
بعد بضع سنوات، بُني مكان السينما المحترقة، مجلس الشعب السوري عام 1929، لتملأها ضجة السياسة والسياسيين، وتنبت مقرات الأحزاب السورية حولها، حيث شهد هذا الشارع مرور كل رؤساء الجمهورية في سوريا وهم يتوجهون للبرلمان.
كما شهد الحي أول زيارة للزعيم جمال عبد الناصر إلى سوريا بعد إعلان الوحدة مع مصر، وشهد مرور الدبابات العسكرية لاحتلال البرلمان وساحة السبع بحرات، كما شهد مئات من المظاهرات الغاضبة ضد الحكومات المتعاقبة.
أما المقاهي التي ملأت الصالحية يوماً كمقهى الفاروق والروضة والشانوار، واشتهرت بجلوس سياسيي دمشق ومفكريها فيها، كخالد بكداش، وجمال الأتاسي وعدنان المالكي، فإما أغلقت أو تحولت إلى مقاه لا تقدم “الوجبات السياسية”.
أما الآن وبعد انحسار الدور السياسي للحي، وتناقص دوره الاقتصادي كسوق منافس للحميدية، تحول هو الآخر إلى سوق شعبي، وأصبحت الصالحية تختصر بشارع لا يتجاوز طوله 300 متر فقط لا غير.
وفيه فوق المحلات التجارية مكاتب المحامين وعيادات الأطباء المتخصصين بأمراض القلب والتنفس، وقريباً من مجلس الشعب، ووزارات الصحة والمواصلات والاقتصاد، هناك مسرح الحمراء وسينما الزهراء ومقهى الروضة الشهير.
لذا من الصعب أن تجد مكاناً كالصالحية، ارتبط فيه الصَّلاح مع التجارة، وتحولت فيه سينما إلى مجلس شعب، وانقلبت أحواله عمرانياً وسكانياً لكنه ما زال محافظاً على نكهة الماضي الجميل.
تلفزيون الخبر