وهكذا رحلَ رضوان!
لم يكنْ يدركُ الشابُ الحالم ابن العشرين خريفاً _فلا ربيعاً في هذي البلاد_ أن نهايةَ حلمه ستكون ببندقيةِ صيدٍ العصافير، فالبلابل عادةً لا تموتُ قتلاً إلا في بلادٍ أنهكتها القباحة.
لطالما حلمَ ابنُ جبل العرب وصاحب الصوت الجميل بأغانيهِ الخاصةِ ككل الكادحين من أبناء جيلنا أبناء الطبقات الدنيا، أبناء الشوارع والحدائق، أبناءُ الأرق، ولطالما شكل بصوته وموهبته إضافةً جميلةً لأي مجلسٍ، رضوان يغني ويعزف العود والغيتار ويطلق النكاتَ، في آخر لقاءٍ لنا كان يتعلمُ البيانو، يبدو أنه قرر أن يكون فناناً متكاملاً على عكس أبناء جيلنا والجيلِ الذي سبقنا.
لطالما جلسنا على سطح بيتنا يين الورود يلحّن كلماتي ويغنيها وهو يدندنها على عوده؛ صديق رحلاته الدائم، لطالما جلسنا نخطط لإطلاق فرقةٍ يتيمةٍ، ولطالما فشلنا.
رضوان لم يكن طالباً في معهد التربية الموسيقية وحسب، بل كان أستاذاً في أحد المعاهد الخاصة في ريف دمشق، يعلِّم الأطفال كيف يكون الموسيقي موسيقياً.
قرابةَ السنةِ لم نلتقي تقصيراً مني وانشغالاً منه، كنا ننتظر الصيف كي نسامر ورود دارنا، فأتى الصيفُ بقسوته وأخذ رضوان معه، أخذه إلى “القريا” ليستشهد كما كل العصافير الحرة في هذي البلاد القاسية.
رحل رضوان ذاك البلبل الذي لطالما “تناقرنا”؛ لأنه يرفضُ أن تنطلق فرقتنا التي لم تُخلق من المراكز الثقافية؛ لأنه أراد أن يشدو ما يحلو له رافضاً أن يعلو انتماءٌ أو تعلو سلطةٌ فوق الموسيقى.
رحل رضوان وبقيت صورته يترع الكأس على سطح بيتنا المتواضع، وهو يقول لي: بديش غني بالمراكز الثقافية يا زلمي، أني بدي غني لأصالة، بديش حدا يقلي غني هيك ولا تغني هيك.
رحل رضوان وبقيت كلماتي التي غناها في جلساتنا تدوي في روحي، وبقيت ضحكاته تملأ صدى المكان أينما رنَّ مفتاح الموسيقى معلناً صلاةً مجددةً ومتجددةً على روح ذاك البلبل الذي رحلَ قتلاً كما كل شهداء هذي البلاد في عصر القباحة هذا.
رحل رضوان ولم نسهر ولم نسكر ولم نغني ولم نحيِّ حفلةً واحدةً بعد اللقاء الأخير، عذراً يا رضوان لم أستطع أن أكون صديقاً.
رحل رضوان كما رحلت الكثير من أمانينا وأحلامنا في هذي البلاد، رحل رضوان بصمتٍ وبابتسامته المعتادة.
هكذا رحل رضوان وبقينا نحترق شوقاً!
حسن يوسف فخور