“الإنسانية المقنعة”.. الحرب الأوكرانية تكشف الوجه الآخر للغرب
لا يوجد عاقل على وجه البسيطة يشعر بالسعادة من جراء اندلاع حرب في أي مكان كان سواء كانت الحرب على أرضه أو على أرض غيره، وبغض النظر عن صوابية الأسباب التي دفعت لهذه الحروب أو خطئها إلا أن الأمان والاستقرار هو مطلب يشترك به كل إنسان يعي معنى الإنسانية.
وجاءت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتُعيد أوروبا لدائرة الصراعات بعد ما يقارب 80 عاماً من انتهاء الحرب العالمية الثانية وسيطرة الهدوء “النسبي” الذي تتخلله أحداث دموية لم ترتقِ لدرجة التهديد الحقيقي لشكل ووحدة القارة العجوز.
وكعادة الحروب في كشفها لطباع البشر والمنظومات السياسية التي تحكمهم، شكلت الحرب الروسية-الأوكرانية مفترق طرق أمام حقيقة “أوروبا بلاد الحريات والإنسانية” فعلى الرغم من ظهور الوجه الحقيقي لأوروبا في الكثير من الأحداث السابقة، إلا أن هذه الحرب بينته بشكل أشد وضوحاً لا يقبل أي تبرير أو تجميل.
ومع بدء العمليات الروسية في أوكرانيا، سارع البشر في مختلف بقاع المعمورة لإظهار التعاطف مع المدنيين راجين توقف الحرب بغض النظر عن موقفهم السياسي.
لكن ما أظهره بعض الغرب (أفراد ومؤسسات) من تعاطف يعبر عن رؤيتهم لسكان الأرض على أنهم “ناس بسمنة وناس بزيت” خلق حالة إشكالية خصوصاً لدى شعوب الشرق الأوسط، وأكد لهم بأن تعاطف العالم الغربي هو تعاطف انتقائي من الصعب أن يتجاوز مفهوم “الشعر الأشقر والعيون الملونة”.
وظهر ذلك بشكل جلي في تصريحات المسؤولين الأوروبيين، كتصريح رئيس وزراء بلغاريا بيتكوف “اللاجئون الأوكرانيون ليسوا من اللاجئين اللذين اعتدنا عليهم، لذلك سنرحب بهم. إنهم أوروبيون أذكياء ومتعلمون ولا يملكون ماضياً غامضاً”.
ولم يكن تصريح نائب المدعي العام الأوكراني السابق ساكفارليدزي بأقل ع.نصرية من البلغاري، حيث خص تعاطفه مع ضحايا الحروب بأصحاب الشعر الأشقر بقوله “مؤثر أن أرى أوروبيين بشعر أشقر يقتلون”.
وحتى في موضوع قبول اللاجئين الفارين من الحروب، ظهر التمايز الغربي في رفض بولندا خلال الأسابيع الماضية استقبال اللاجئين السوريين العالقين في صقيع الحدود مع بيلاروسيا ومن ثم المسارعة لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين، حتى إن الحكومة البولندية بحسب وسائل إعلام عالمية رفضت إدخال بعض الفارين من حرب أوكرانيا لأنهم من أصحاب البشرة السمراء.
ولأن لأميركا (تاريخ حافل مع العن.صرية) لم يفوت مراسل شبكة “CBS” الأميركية الفرصة ليظهر هذا الأمر على الهواء في مستهل حديثه حول الوضع في أوكرانيا “الناس يختبؤن في الملاجئ ولكن مع احترامي هذا المكان ليس مثل أفغانستان أو العراق اللذين يشهدان صراعاً منذ عقود. هذه مدينة حضارية نسبياً وأوروبية نسبياً ولا بُد لي من اختيار هذه الكلمات بعناية أيضاً: مكان لا تتوقع أو تأمل أن يحدث فيه كل ذلك”.
وسارت زميلته مراسلة “NBC” الأميركية على ذات النهج حيث علقت على أحداث أوكرانيا “بصراحة، هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء لاجئون من أوكرانيا المجاورة، بصراحة تامة، هؤلاء مسيحيون، إنهم بيض، إنهم مشابهون جداً للأشخاص الذين يعيشون في بولندا”.
وفي مخالفة واضحة لجوهر الرياضة المبني على عدم التدخل بأي حدث سياسي، قامت المنظمات الرياضية العالمية بتجميد هذا النص، وتجاوز أي نص يُعاقب أي لاعب أو اتحاد رياضي يقوم بأي تصرف يُعبر عن موقفه السياسي لأن النزف هذه المرة أوروبي اللون.
ووقفت الاتحادات الكروية في إسبانيا وبريطانيا على سبيل المثال دقائق من الصمت احتجاجاً على العمليات الروسية في أوكرانيا قبيل بدء المباريات، ورفعت أعلام وشعارات تظهر التضامن مع الشعب الأوكراني، وقام اللاعبون أثناء احتفالهم بالأهداف بدعم أوكرانيا.
وتجاوزت القضية الشعارات، فاتجهت “الفيفا” لاستبعاد روسيا من تصفيات كأس العالم لكرة القدم على خلفية أزمة أوكرانيا، وقامت رفقة “اليويفا” بتعليق عضوية روسيا وأنديتها.
أسئلة لا بد من طرحها:
لا ينكر أي عربي أو شرق أوسطي وجود بعض حالات التعاطف من المواطنيين الغربيين مع قضايا بلادنا الغارقة في الألم منذ عقود، لكن كيف يُفسر الغرب دعمه “الانتقائي” للمدنيين في أوكرانيا بينما موقفه من التدخل السافر في العراق وسوريا واليمن وفلسطين ولبنان وليبيا ومعظم أفريقيا سلبي تماماً؟
كيف يمكن لمنظمات رياضية تحمل شعارات الإنصاف والوحدة ونبذ العن.صرية أن تتعاطف مع القضية الأوكرانية في الساحات الرياضية وفي الوقت ذاته تعاقب أي رياضي عربي يرفض مواجهة لاعب صهيوني لأنه يحتل بلاده منذ عقود أو يظهر دعمه لقضاياه؟ ولنا في صور المصري أبو تريكة ولاعبي الجودو في سوريا والجزائر خير مثال.
كيف يمكن لهذه المنظمات “الرياضية” أن تشطب عضوية روسيا بحجة عملياتها في أوكرانيا وهي لم تقم بفعل ذلك مع الولايات المتحدة وبريطانيا حين قاما باحتلال العراق وتدميره (خارج الإجماع الدولي) ولا مع فرنسا وإيطاليا عقب تدميرهما لليبيا بحثاً عن نفط القذافي؟ كما أنها لم تنتفض أمام دعم الغرب لكيان الاحتلال الذي يغتصب فلسطين والجولان السوري!.
هل قرر الغرب أن أطفال سوريا واليمن والعراق وفلسطين ولبنان وليبيا وعموم أفريقيا يستحقون ما عايشوه خلال سنوات الحرب في بلادهم لأنهم أقل ثقافة أو تطور من أقارنهم الغربيين أو لأنهم يحملون جينات غير ملونة؟.
هل تناسى الإعلام الأميركي أن الدماء التي سالت في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان واليمن وليبيا وعموم أفريقيا سالت بفعل الأسلحة الأميركية والغربية؟ هل تناسوا منظر الدبابات الأميركية التي احتلت العراق أو الطائرات الأوروبية التي دكت المنازل في ليبيا أو الصواريخ الصهيونية التي حصدت أعداداً لا تُحصى في لبنان وسوريا وفلسطين؟.
في النهاية، لا يسعنا إلا الدعاء بانتهاء الحرب الأوكرانية الروسية وعودة الأمان للمدنيين في أقرب وقت، بغض النظر عن أسباب من أشعل هذه الحرب وأسباب من يسعى لاستمرارها أو لا يسعى لإيقافها.
ويبقى الشيء الذي لن يُمحى من التاريخ مستقبلاً هو سقوط الغرب أمام امتحان الإنسانية التي لا تثور في عقولهم إلا للشعر الأشقر والعيون الملونة.
جعفر مشهدية-تلفزيون الخبر