سوريين عن جد

في ذكرى جذوره وقلبه الدمشقي .. الدمشقي وهذي دمشق

 

“هذي دمشق وهذي الكأس والراح” هي مطلع إحدى أجمل القصائد التي كتبها ابن بأمه، عاشق بمحبوبته، هي مطلع قصيدة شاعر أحب حتى اللانهاية، “إني أحب وبعض الحب ذباح”.

ارتبط اسم نزار قباني بدمشق عند كثيرين ممن أحبوا دمشق، ويبدو أن حب نزار لدمشقه كان أكبر، واعتبر دمشقه الحب والجرح، “جراحة القلب تشفي بعض من عشقوا، وما لقلبي إذا أحببت جراح”.

ولد قباني يوم 21 آذار من عام 1923 في دمشق منطقة بئر الشحم، لأسرة دمشقية معروفة، وعرف عن نفسه في حياته “أنا الدمشقي”، وبقيت دمشق حاضرة في أشعار الدمشقي أينما ترحل.

وبقي الدمشقي العاشق يكتب القصائد تلو الأخرى بكل الصبايا الأخريات اللواتي مررن، لكنه بقي يذكر تفاصيل من أحبها أولا كما يذكر محب ضحكة أو لون عيني من يحب، “للياسمـين حقـوقٌ في منازلنـا .. وقطة البيت تغفو حيث ترتـاح ..طاحونة البن جزءٌ من طفولتنـا.. فكيف أنسى؟ وعطر الهيل فواح”.

ودرس الدمشقي في مدارس دمشق وجامعتها وترحل عنها مبكراً ليعمل في بعثاتها وقنصلياتها في الخارج، وحين عودته نزفها شعراً “خمسون عاماً.. وأجزائي مبعثرة فوق المحيط وما في الأفق مصباح”.

ولعل الدمشقي، الذي زار بلدان عدة، تنبأ في أكثر من قصيدة له عن حال العروبة “ما للعروبـة تبدو مثل أرملة؟ أليس في كتب التاريخ أفراح؟”، وكأن الدمشقي الآن وحتى بعد وفاته لا يفارقه أحساسه بمن يحب.

ودرس الدمشقي الفن بكل أنواعه، بدءا من الخط العربي الذي درسه مبكرا في سنينه الأولى في المدرسة، ثم تابع مع الرسم الذي لم يمض فيه كثيرا ومع ذلك فإن إحدى دواوينه حملت اسم “الرسم بالكلمات”، وتعلم الدمشقي أيضاً الموسيقى.

وتنوع الدمشقي بالفن لم يأت من فراغ، فجده صاحب فضل على فناني وممثلي سوريا، كيف ولا وهو أبو خليل القباني، ولكن وبالنهاية استقر مركب الدمشقي على الشعر وبحوره، ومن أفضل معلم للغة العربية أفضل من كاتب النشيد الوطني لسوريا خليل مردم بك.

كما تأثر الدمشقي بأبيه في كل حياته، ومنه أخذ ميله نحو الشعر، وذكره في عدة قصائد عن دمشق باعتباره جزءا منها في مخيلته، “هذا مكان أبي المعتز منتظرٌ ووجه فائزة حلو و لمـاح”.

ولكن الدمشقي لم يكن كغيره، فخط لنفسه طريقا أخر وحفر بصخر الجهل والتحلف، وهاجم العادات والتقاليد السائدة، بل واعتبرها في إحدى قصائده “فقافيع من الصابون والوحل”، وسببت قصيدته “خبز وحشيش وقمر” جدلا كبيرا في البلاد ووصلت لحد مناقشتها في مجلس الشعب، “أقاتل القبح في شعري وفي أدبي حتى يفتـح نوار وقـداح”.

وعرف الدمشقي أيضاً بأنه “شاعر المرأة”، والحديث عن قصائده الغزلية يطول جدا، وتعتبر قصة انتحار أخته وصال بعد تزويجها لرجل لا تحب هي الشعلة التي أطلقت نزار بهذه الاتجاه، وهو ما نقلته الأديبة كوليت خوري هذه القصة عنه.

واعتبر الدمشقي مثيرا للجدل منذ صدور أول دواوينه عام 1944 “قالت لي السمراء”، الذي كتب قصائده وألفها وطبعها على نفقته الخاصة وهو في مرحلة دراسته الجامعية، وهوجم من كثيرين باعتبار أنه يقدم مضمونا إباحيا ليس شعرا، لكنه لم يبال وتابع من أحب دمشقه وأحبته هي “كم من دمشقيةٍ باعـت أسـاورها حتى أغازلها والشعـر مفتـاح”.

وقدم قباني في قصائده الكثير الكثير من الغزليات المرتبطة بعلاقاته مع عشيقاته، واستطاع تقديم مضمون مميز يتحدث فيه بلسان امرأة، حتى أن إحدى قصائده قدمها بلسان فتاة صعيرة بلغت للتو، واعتبرت هذه القصائد من أهم قصائده وأغلبها تم تلحينه وغنائه.

وتنقل قباني كثيراً في العالم بسبب عمله الدبلوماسي في السفارات، بدءاً من القاهرة مروراً بلندن ومدريد وحتى الصين وصولاً لبيروت التي أحبها وأعطاها جزءاً في قلبه، واعتزل الدمشقي العمل الدبلوماسي عام 1966 وتفرغ للشعر.

وتعد نكسة حزيران نقطة تحول في تاريخ شعر الدمشقي، وكما أثرت على الوعي العربي وأحبطته وأتت كصفعة يتردد صداها حتى اليوم، وتحول شعر القباني من الغزل إلى السياسي.

ولخص القباني نزار حال العالم العربي بقوله “وكيف نكتب والأقفال في فمنا؟ وكل ثانيـةٍ يأتيـك سـفاح؟” حملت شعري على ظهري فأتعبني ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟”، وبشعره مارس الوجه الأخر لمهمته كمثقف في النقد والصراخ بوجه من يجب الصراخ بوجههم.

وأصدر نزار قباني 35 ديواناً وتعاون مع الكثير من الملحنين والفنانين من كبار المبدعين، الرحابنة وفيروز، عبد الحليم حافظ، ومحمد الموجي، نجاة الصغيرة، أم كلثوم، محمد عبد الوهاب، رياض السنباطي، ماجدة الرومي، وأصالة والهام المدفعي، وغيرهم، فيما كان النصيب الأكبر كان للفنان العراقي كاظم الساهر.

وتزوج الدمشقي مرتين، الأولى من ابنة خاله زهراء آقبيق، وانفصل عنها، والثانية وهي إحدى العلامات الفارقة في حياة الدمشقي حين تزوج العراقية بلقيس الراوي التي ومن بين جميع من مروا استطاعت ترويض الرجل في داخله، ومع موتها في الانفجار الذي استهدف السفارة الأمريكية في بيروت 1982 وبعد أن خلدها بقصيدة للتاريخ، هجر الدمشقي كل المنطقة وسافر بشعره وتمرده متنقلا بين العواصم الأوروبية.

وظل الدمشقي متنقلاً بين العواصم الأوروبية وهو يتابع جلده ومهمته حتى توفي في 30 نيسان من عام 1998، وكانت جنازة الدمشقي في دمشق وخرج فيها أعداد ضخمة من الدمشقيين تعبيراً كبيراً عن حب بين الدمشقي ودمشقه.

وللدمشقي في دمشق قصائد عدة منها “هذي دمشق” و قصيدته التي يقر فيها “أنت النساء جميعاً ما من امـرأة أحببت بعدك إلا خلتها كـذبا”، وقصيدة أخرى يوم انتصار تشرين “كتب الله أن تكوني دمشقا بك يبدا وينتهي التكوين”.

وكانت أخر وصايا نزار قباني من مشفاه في لندن أن يدفن في حضن حبيبته لأن “هنا جذوري هنا قلبي هنا لغـتي فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟”، ودفن الدمشقي في مقبرة الصغير في حي الشاغور، الذي ضربه تفجير ارهابي مطلع هذا الشهر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى