كاسة شاي

“ماريڤيت” العمة الفرنسية التي صنعت من مدينة اللاذقية بيتاً و وطناً وأصدقاء

منذ البدايات كنت أعلم أنني سأطأ بقدمي أراضِ شاسعة من الكرة الأرضية، لأقف عند نقطة واحدة.. مدينة واحدة.. صنعت فيها كل أصدقائي وذكرياتي أيضاً، وجدت فيها طبيعةً فائرةً خضراء تعاند، وأطلال لبيوت أرى من شرفاتها شاطئ البحر، إنها مدينة اللاذقية التي لم أغادرها منذ العام 1994.

هذا مابدأت به العمة “ماريڤيت” حديثها لتلفزيون الخبر، إنها تلك المرأة التي احتفظت لنفسها بذكريات ولادتها في فرنسا وعانقت مدينة اللاذقية لتكون حاضرها ومستقبلها أيضاً.

والعمة “ماريڤيت” فرنسية المولد، ولدت في مدينة “ڤالونيّ” الفرنسية الواقعة على الساحل الشمالي المطل على بحر “المانش”، لتغادرها وهي في الثانية والعشرين من عمرها، وتصل إلى دمشق عام 1952، ثم تنقلت بين لبنان والعراق والأردن وروما لتعود إلى سوريا وإلى اللاذقية بشكل نهائي.

وقالت العمة “ماريڤيت” لتلفزيون الخبر “جئت إلى سوريا منذ العام 1952، تنقلت بعدها في بلدان مختلفة، لاستقر في مدينة اللاذقية، عندما بدأت الحرب في سوريا، لم أشعر بأنه يجب عليّ الرحيل”.

وأضافت “أؤمن بالإشارات التي يرسها لي رب العالمين، انتظرت علامة منه هل أرحل أو لا، لم تصلني أي إشارة إلهية تنذرني بالرحيل، لا يوجد مايستدعي الرحيل بل البقاء، إن الحروب يجب أن تدفعنا للبقاء لمساعدة الآخرين وليس للرحيل”.

وأكملت العمة “ماريڤيت” “لا أحد يستطيع أن يقيدنا مثل القيد الآتي من التجسس على الذكريات، أذكر بوضوح عندما أصبحت راهبة في عمر الـ 22 بدأت بالعمل مع الأخوات الراهبات، جلت العالم”.

و تابعت “عندما زرت مدينة اللاذقية لأول مرة شعرت بأني أعود إلى مدينتي الفرنسية “ڤالونيّ” وجدتها مدينة ساحلية جميلة أعادت إليّ ذكريات طفولتي، كما أن هواءها يشبه هواء بحر “المانش”، لم أشعر بالغربة، بل صنعت منها وطن، كنت كلما سافرت وعدت إليها أقول “أووه الحمدلله عدت إلى البيت”.

وحركت العمة “ماريڤيت” رأسها.. لتقول وعينيها شاردتين “أذكر عندما استقريت في اللاذقية عام 1983 كنا عندما نسير في شارع الأميركان نسمع الأهالي يلقون التحية “بونجوغ جورج” “بونجوغ ماغي”.

وأضافت ضاحكةً “كنت أقول لنفسي “ياربي وين أنا أمشي باللاذقية أو بفرنسا؟”، كما أن الفتيات كن يرتدين نمط لباس قريب من فتيات فرنسا، إنها مدينة صنعت لنفسها مستوى عالي من الانفتاح الاجتماعي والثقافي إلى الدرجة التي لم أشعر معها بالغربة”.

وعن عملها في مدينة اللاذقية شرحت العمة “ماريڤيت” لتلفزيون الخبر “عندما قررت البقاء، كان هذا القرار مصحوب بقرار آخر، وهو أن يكون لوجودي معنى، لذلك بدأت بتدريس اللغة الفرنسية، كما كنت أُجيد العمل على الآلة الكتابة في تلك الفترة، ودروس المعالجة الفيزيائة للأطفال ذوي الاحتياجات الإضافية، وعملت في جمعية الأسرة الخيرية حتى تقاعدي”.

و أَحبت العمة “ماريڤيت” عملها مع الأطفال حيث ربطتها بهم علاقة طويلة الأمد، هذا ما ساعدها على بناء علاقات صداقة مع عوائلهم الذين أصبحوا فيما بعد أصدقاء وأحباء لها، أما في فرنسا بعد وفاة والديها لم يتبق لها أحد، سوى القليل من الذكريات والصور.

وعن ذكرياتها، قالت العمة “ماريڤيت” لتلفزيون الخبر: “تعلّمت حياكة الصوف منذ كنت في عمر السنتين، علمتني أُمي، بذاكرتي أرى نفسي أجلس على شاطيء بحر “المانش” وأُحيك قطعة من الصوف زرقاء اللون”.

و أضافت “في ذاكرتي أيضاً أنني عندما وصلت إلى مدينة اللاذقية، لفتتني نوافذ البيوت الأرضية المطلّة على الأرصفة، كنت استرق النظر فأرى النساء يجلسن بالقرب من المدفأة ويحكن الصوف”.

وكانت العمّة “ماريڤيت” سبباً من الأسباب التي جمعت فريدة وجورج في بيت واحد، تعرّفت فريدة على “ماريڤيت” في اللاذقية، وكذلك زوجها جورج الذي قال لها “ماريڤيت “سأخطفها” تُخفض “ماريڤيت” صوتها وتضحك قائلة ” قلت له سأخطفها أنا لك”، واليوم “ماريڤيت” تحكيك الثياب لأطفال فريدة وجورج.

وعن الحياة الاجتماعية في اللاذقية قالت العمة “ماريڤيت” لتلفزيون الخبر “عندما كنت في فرنسا خلال فترة الثلاثينات من القرن الماضي، لم يكن هناك أي فكرة سلبية عن الاسلام والمسلمين، لم يكن هناك اسلام في فرنسا، أظن اليوم اختلف الوضع وأصبحت فرنسا مليئة بالمسلمين”.

وتابعت “لكنني بطبيعتي لا أهتم بديانة الإنسان، مسلم أو بوذي أو مسيحي، ما يهمني كيف نلتقى وعلى ماذا نلتقى و نفهم بعضنا، والباقي لا اهتم به، كما أن أعياد الميلاد أقضيها مع أصدقائي المسلمين بمعظمهم”.

و هزت العمة “ماريڤيت” رأسها لتُجيب على الهاتف، إنها صديقتها رانيا الصيدلانية، تُكلمها لتخبرها أنها أحضرت لها طبق “الشوربة” الدافئ، تركته لدى البقال، كي لا توقظها من قيلولتها عند الساعة الثالثة ظهراً، تُغلق “ماريڤيت” السمّاعة وتقول: “لدى الكثير من الأحباء في اللاذقية، فالمحبة هي القوة التي تجعلنا نستمر في الحياة”.

و بالعودة إلى الإشارات قالت العمة “ماريڤيت” “استأجرت هذا المنزل في إحدى حارات شارع انطاكية الضيقة، بعد مرور ثماني سنوات كنت أشعر بالقلق لأن أصحابه سيطالبونني بالرحيل”.

وأكملت “في تلك الفترة وفي الأسبوع ذاته، يوم الخميس وصلني مكتوب من فرنسا عمي توفي ونحن أولاد إخوته علمنا كل أحد ماهي حصته من الميراث، ارسل لي عمي الثاني المكتوب ليقول لي حصتي من الميراث مايعادل 635 ألف ليرة سورية”.

وتابعت “يوم السبت جاء أصحاب المنزل قالوا نريد بيعه بثمن 650 ألف ليرة، قلت لهم أنا اشتري، وصلني ثمنه جاهز بنقص 15 ألف ليرة، إنها إشارات من الله تقول لي لا ترحلي”.

وخلال الفترة الأخيرة تقدمت العمة “ماريڤيت” بالعمر، لم تعد قادرة على السير لمسافات طويلة، كما أن نظرها تراجع، ولم تعد قادرة على حياكة الصوف.

إلا أن قلبها لم يتوقف عن النبض أبداً، تخرج أحياناً تنظر إلى البحر تسير قليلاً في شوارع اللاذقية، تلقي التحية على البقال و اللحام والجيران، تشتري صورة للسيدة العذراء تعلّقها في مكتبتها، تصلها دائما إشارة من الله تقول “ماريڤيت لا تتوقفي عن الحُلم أبداً”

سها كامل – تلفزيون الخبر – اللاذقية

Image may contain: indoor

Image may contain: 2 people, people smiling, people sitting and indoor

Image may contain: 1 person, sitting and indoor

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى