كاسة شاي

“كوكب الشرق” صرحٌ من واقعٍ..لم يهوِ..43عاماً على الوفاة

يقول نجيب محفوظ فى رواية “”ميرامار”: “ليلة غنائها هي ليلة جميع الطبقات، والأفراد، وصوتها علامة عصر بأكمله”، وتقول مجلة “لايف” الأمريكية عام 1962: “فى الساعة العاشرة ليلة الخميس الأول من كل شهر، يحدث شيء غريب فى الشرق الأوسط، يهدأ الضجيج فى شوارع القاهرة فجأة”.

وتتابع المجلة “وفى الدار البيضاء التى تبعد 2500 ميل إلى الغرب، يكف الشيوخ عن لعب الطاولة فى المقاهي، وفى بغداد التى تبعد 800 ميل إلى الشرق، يحدث نفس الشيء، الكل ينتظرون برنامجاً معيناً تذيعه إذاعة القاهرة، مدة هذا البرنامج خمس ساعات، ويذاع ثماني مرات فى السنة، ونجمته مطربة اسمها أم كلثوم”.

لم يكن ما خلدته “كوكب الشرق” صرحاً من خيالٍ كما قالت في رائعتها “الأطلال”، ولم تكن ليلة واحدة تلك التي أحيت بها “الست” قلوب الجمهور من عشاق ومغلوبين وسياسيين وصغار كسبة وكل فئات العالم العربي.

ولا تكفي “ألف ليلة وليلة” لجمع وأرشفة ما خلدته “أم كلثوم” في الذاكرة الجمعية العربية، ويحتار العالم العربي في سر هذه الحبال الصوتية التي استقرت في حنجرةٍ لم يأتِ عليها الدهر.

أم كلثوم التي انتهت عملية إنقاذها بعد غيبوبة دامت لمئة يوم بخيبة أمل، خيبة أمل لم تقتصر فقط على أطبائها المحتشدين حولها، بل أصابت العالم العربي ككل، لم تفلح عملية تدليك القلب العنيفة، كما أبى الأوكسجين أن يندفع داخل رئتيها، و قلبها الذي وزع العشق والجمال رفض الاستجابة للحقنة الأخيرة.

توفيت “كوكب الشرق” في الساعة الرابعة والنصف من بعد ظهر يوم الثالث من شباط عام 1975، وتصدر نبأ رحيلها الصفحات الأولى لكل الصحف اليومية المصرية والعربية والعالمية، وحملت الصحف تفاصيل رحيلها، وجنازتها.

لم يبلغ أحد تلك المكانة التى بلغتها أم كلثوم، ولم تحتفِ الصحف بأحد مثلما احتفت بها، فكل الصحف اتشحت بالسواد، وحولت بعض الصحف لون “اللوجو” الخاص بها إلى اللون الأسود حزناً على رحيل كوكب الشرق.

كانت وفاتها نهاية لحياة استمرت 77 عاماً، نهاية لحقبة زمنية لوّنها صوت الطفلة فاطمة بنت الشيخ ابراهيم السيد البلتاجي، التي ولدت عام 1898 بقرية طماى الزهايرة محافظة الدقهلية.

واستمرت أم كلثوم على مدى هذه الحقبة، ورغم تقدمها بالسن صادحةً بصوتها الذي تحدى قوانين الطبيعة، وفي وصف صوتها، قالت الكاتبة المصرية رتيبة الحفني: “الصوت عادة يشيخ مع التقدم فى السن، لكن لم يحدث غير تغيير طفيف فى صوت ام كلثوم فى السنوات الأخيرة، وذلك بعد تخطيها سن الستين، وهو انخفاض فى مساحات طبقات صوتها المرتفعة بينما احتفظت بجمال رنين صوتها”.

كان الموت ختاماً لحالة غنائية فريدة، ولقصة فتاة ريفية كبرت لتصير رمزاً ثقافياً لأمة كاملة، فهى في جميع جوانب حياتها العامة كانت أم كلثوم تبرز قيماً قومية، ساعدت على تشكيل الحياة الثقافية والاجتماعية المصرية.

كوكب الشرق وعلى الرغم من كونها رمز ثقافى عربي جامع لم تحصل على شهادة علمية واحدة، وحتى رحيلها ظلت تفتخر بأنها “البنت الطالعة من الغيطان والفلاحين وريقها يجري على أكل السريس والمهلبية”، حسب قول “عمار الشريعي” عنها.
وتقول هى عن نفسها فى مذكراتها المنشورة بجريدة “الجمهورية”: “اتحرمت من كل حاجات البنت اللى فى سني، الهدوم الملونة الزاهية أم نص كم، ماكنتش ألبس فى هذا الوقت غير الجلابية اللى كانت بتجرجر فى الأرض، اللى لونها حشمة، ولو خرجت لازم ألبس الطرحة، ماكنش بيبان مني، غير وشي وبس”.

وتضيف: “كانت الأيام دي هى الفترة اللى اتعلمت فيها كل شيء، لأني ماتعلمتش فى مدرسة، أو تخرجت من جامعة، المدرسة اللي تعلمت فيها، هى الأزقة والحواري والأجران، اتعملت كتير من الفترة دي”.

وتتابع “اتعلمت الصبر من الناس الفلاحين والغلابة، اللي باشوات زمان وبهاوتها كانوا بيذلوهم ويستعبدوهم، ومع كده كان الناس برضه صابرين زي ما كانوا عارفين إن الليل لازم يطلع له نهار، وإن الظلم مش حيدوم أبدا”.

ربما يعتبر البعض أن دخولنا في عرضٍ لأغنياتها هو إيغالٌ في الحشو، وهذا ممكن، فمن لم يطرب على قصيدة “البردة” ومن منا من لم يحلّق باحثاً ربما عن مجهول ليلقاه عند سماعه “أغداً ألقاك”، ومن لم يبحث عن الجمال ليعشقه قلبه كلما سمع “القلب يعشق كل جميل”.

ودعت “الست” العالم، تاركة حالة فريدة لم يأت بعدها، إلا مقلدون محاولون و متبعون لنهجها، منهم من أبدع، لكن وبالتأكيد ليس منهم من جاوز عظمتها، كيف لا فهي التي أطربت من نادوها بـ”عظمة على عظمة ياست”، وهي من لقبت بـ”أفيون العرب”.

روان السيد-تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى