فلاش

عن يدي حنظلة المكتوفتين .. وفكر ناجي الذي ما أخمدته رصاصة خرساء

 

هي رصاصة خرساء غادرة، صوَّبها مطلقوها نحو رأسه، رصاصة جبانة لم يدرك أصحابها مدى هزليتها وسطحيتها أمام عمق أثر من صوبت نحوه، لم يدركوا حجم ضعفهم أمام أبدية إبداع ناجي العلي، و لم يضعوا في حسبانهم أن حنظلة سيبقى شاهداً حقيقياً على كل المراحل والأحداث..و لم يمت.

وغاب عن فكرهم الهزيل أن فكر ناجي، لا يموت ورسوماته ما بهت بريقها يوماً أو خفت إيقاعها، وأن حنظلة مهما طال به الحال لا بد لقسمات وجهه أن تنثر يوماً ما خبأه بها ناجي من معانٍ للصمود والتحدي.

العلي المولود في فلسطين في قرية الشجرة والذي اختُلِفَ في تاريخ ميلاده ورُجِحَ أنه في العام 1937، هُجِِّرَ من فلسطين مع أهله في العام 1948 و عاش في الشتات وفي المخيمات حياة البؤس والشقاء والفقر والمعاناة، لكن دون أن تفتر عزيمته أو تلين.

ناجي العلي الذي ظل صوته مدوياً، مناضلاً بالكلمة والريشة المبدعة لاسترجاع ما أخذ منه بالقوة، أنجز خلال رحلة دامت نحو ربع قرن، ما يزيد عن عشرين ألف لوحة خلال عمله في “الطليعة” و “السياسة”، و”القبس” (الكويت)، و”السفير” اللبنانية.

استشهد ناجي اغتيالاً و هو على يقين أن: “اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت”.

وما تعب العلي يوماً من صلب قامته دونما كلل بعد أن فكك شيفرة الصراع بأنه “صلبٌ لقاماتنا كالرماح”، بينما فلسطينه كانت قريبة تفصله عنها ثورة مجدية فقط “الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة”.

شهد ناجي أهم الأحداث العربية والعالمية، و شكلت رسوماته مدونة، وتاريخ للمقاومة والمعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني والعربي، وكان يقظاً لكل الأسباب التي تقف في مواجهة حركة التحرر العربي.

ابتدع ناجي العلي “حنظلة” الشخصية التي تمثل صبياً في العاشرة من عمره، و طرحها في الكويت عام 1969م في جريدة السياسة الكويتية، و أدار حنظلة ظهره في سنوات ما بعد 1973م وعقد يديه خلف ظهره، وأصبح بمثابة توقيع ناجي العلي على رسوماته.

حنظلة سيظل دائماً في العاشرة من عمره، فهو الذي لم يأخذ بالحسبان سنوات عمره بعد مغادرة الأرض ففي العاشرة غادر فلسطين وحين يعود حنظلة إليها سيكون في العاشرة ثم يبدأ في الكبر، فقوانين الطبيعة لا تنطبق عليه لأنه استثناء كما فقدان الوطن استثناء”.

وأما عن سبب تكتيف يديه فيقول ناجي: “كتفته بعد حرب 1973م لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة، وهنا كان تكتيف الطفل دلالة على رفضه المشاركة في حلول التسوية الأمريكية في المنطقة، فهو ثائر وليس مطبع”.

وعندما سُئل ناجي العلي عن موعد رؤية وجه حنظلة أجاب: “عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي شعوره بحريته وإنسانيته”.

ومن شخصيات ناجي العلي أيضاً المرأة الفلسطينية التي أسماها فاطمة و التي لا تهادن، وله شخصية السمين ذي المؤخرة العارية والذي لا أقدام له (سوى مؤخرته)، وشخصية الجندي “الإسرائيلي”، طويل الأنف، الذي في أغلب الحالات يكون مرتبكاً أمام حجارة الأطفال.

و سببت مواقف ناجي له الكثير من المتاعب، لكنه لم يكن ليلين وكان يرى في رسم الكاريكاتير موقفاً سياسياً من القضية الفلسطينية، وموقفاً اجتماعياً من الحياة، و ظل فلسطينياً حاداً لا يقبل التراجع ولا الانحناء.

و شاركت رسوم العلي في عشرات المعارض العربية والدولية، و صدر له ثلاثة كتب في الأعوام (1976، 1983، 1985) ضمت مجموعة من رسوماته المختارة.

وكان يتهيأ لإصدار كتاب رابع لكن الرصاص الغادر حال دون ذلك، و حصلت أعمال ناجي العلي على الجوائز الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب أقيما في دمشق في سنتي 1979 و 1980م ، وحاز على عدة جوائز كبرى في معارض دولية وعربية.

و أقيمت لرسوماته عدة معارض قبل استشهاده وبعده. كما
انتخب أميناً عاماً لاتحاد رسامي الكاريكاتير العربي إضافة إلى كونه عضواً مؤسسا في الاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين وعضواً في الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين.

و لم يتوقف الاهتمام بناجي العلي بين قطاع واسع من المثقفين والفنانين العرب، بل و سجلت السينما العربية حياته في فيلم أثار الجدل حينها حيث جسد شخصيته الفنان المصري نور الشريف.

و بشرت أعمال ناجي العلي بالانتفاضة الفلسطينية الأولى التي ولدت بعد اغتياله بخمسة أشهر تقريباً، ففي الكثير من رسوماته يحتل الأطفال دور الجنود،و السلاح المقدس لديه هو الحجر الرخيص الثمن، المتوفر في كل لحظة، والقادر على دكّ حصون المحتل.

كانت رسوم ناجي حزينة، لم تكن ساخرة، بل تحدثت عن آلام الناس ومواجعهم، وعندما لم تكن حزينة كانت جادة، تقول آراء ومواقف وتحدد بوصلة للحراك السياسي عبر مفارقات ذكية.

ومن المفارقات المؤسفة أننا نفتقر اليوم لمن ينتصر لقضايانا كما انتصر لها ناجي، وهو يعلم أن موته مرتقب، في الوقت الذي يعتلي فيه كثيرون بروجاً مشيدة محصّنة بشعارات رنانة وهتافات لا تغني ولا تسمن، بينما لا زال حنظلة مكتوفاً صامّاً أذنيه.

روان السيد – تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى