ثقافة وفن

عن “آخر حبة قمحٍ قبل اليَبَاس” .. يوم غاب عاصي الرحباني

إلى عاصي .. مما كتب نزار قباني:

“هو آخر الأشياء الجميلة في حياتنا وآخر قصيدة، قبل أن ندخل في الأمّي، وآخر حبة قمحٍ قبل أن ندخل في زمن اليَبَاس، وآخر قمرٍ قبل أن تهاجمنا العُتْمَة، وآخر حمامةٍ تحطُّ على أكتافنا قبل زمن الخراب، وآخر الماء قبل أن تشتعلَ الحرائق في ثيابنا، وآخر الطفولة قبل أن تسرقَ الحربُ طفولتنا”.

عاصي الرحباني الذي تُذكّرنا “روزنامة” يوم 21 حزيران بوفاته، لم يكن شريك السيدة فيروز في الزواج فقط إنما كان شريك العمل والحب أيضاً، إضافة إلى كونه واحداً من الثنائية الرحبانية مع أخيه منصور.

ففي السؤال عن السيدة فيروز لابد من الإجابة بعاصي، السؤال والإجابة هنا متعاكسين، وفي سؤالٍ آخر عن عاصي وفيروز لابد من إجابة تضاف وهي “الأخوين رحباني”، الثنائية الراسخة في تاريخ الفن العربي.

وُلدَ عاصي في 4 أيار 1923 في قرية أنطلياس للأبوين حنّا الرّحباني وسعدى صعب، وكان للبيئة التي نشأ فيها دورٌ أساسيٌّ في التأثير على نوعيّة عطائه الفنّي من حيث الأفكار والمواضيع والسياقات.

ونشأ عاصي الرحباني بين البساتين وبين المدرسة والكنيسة وما فيهما آنذاك من تركيزٍ على القيم الرّوحية والثقافية النبيلة فتميزت نشأته بالبساطة.

لم يتمكّن عاصي في مراهقته من الانضمام لجوقة الكنيسة التي كان يتردد إليها، لكنّ شغفه وموهبته في مجال الموسيقى دفعاه لأن يحضر الدروس في الكنيسة سراً، وعندما انتبه الأب بولس إلى موهبته باشر بتعليمه منذ تلك اللحظة، ثم تابع تعلّم التأليف الموسيقي على يد الأستاذ برتران روبيار.

وبدأ عاصي الرحباني مسيرته المهنية في الموسيقى من الإذاعة اللبنانية، وبعد ذلك في راديو الشرق الأدنى، حيث التقى لأول مرة مغنيةً اسمها نهاد حداد، كانت في ذلك الوقت عضوةً في كورال المحطة الإذاعية، وصارت فيما بعد الأسطورة فيروز.

واختار، حينها، المخرج الموسيقي للمحطة الإذاعية نهاد من الجوقة في عام 1951، وألف الرحباني أغنيةً لها لتغنيها، وبعد أول جلسة تسجيلٍ لها طلب منه تأليف العديد من الأغاني الأخرى لها، وبمساعدة شقيقه منصور، أنتج الثلاثي أكثر من 50 أغنية للمحطة.

غادر الثلاثي فيما بعد “راديو الشرق الأدنى” وبدأوا بكتابة وتسجيل الأغاني بشكلٍ مستقل، وألف كل من عاصي ومنصور الأغاني والكلمات معاً، و تعاون الثلاثي مع فنانين آخرين وبدأت شهرتهم تزداد بشكلٍ تدريجي.

كما أسس الرحابنة مهرجان بعلبك الدولي عام 1957، (حدثٌ موسيقي ثقافي أُقيم في المدرج الروماني)، وهذه هى المرة الاولى التى يظهر فيها الفنانون المحليون فى مهرجانٍ دولي.

وألف “الأخوين رحباني” معاً المسرحيات والمسرحيات الغنائية، مع الاستمرار في نشر موسيقاهم من خلال الإذاعة والتلفزيون، واستندت معظم هذه المسرحيات حول مواضيع وطنية بسيطة، وأظهرت حياة القرية العاطفية وفطرتها.

وبحلول ستينيات القرن الماضي، كان الأخوين رحباني وفيروز من بين الفرق الأكثر شهرةً وشعبيةً في لبنان والشرق الأوسط، وأصبحوا رموزاً موسيقية، مع العديد من الفنانين الذين يتطلعون للعمل معهم.

بالإضافة إلى موسيقاهم، بدأوا الكتابة والإخراج والظهور في الأعمال المسرحية والتلفزيونية، وظهرت فيروز في العديد من هذه الأعمال، وحتى أن الرحباني شاركها في فيلمين لبنانيين.

وساعد عاصي الرحباني في إرساء أسلوب المسرح الموسيقي الذي لا يزال فريداً من نوعه في نواحٍ كثيرة، وتركز إنتاجه الأوبرالي والشعري على التاريخ والفولكلور فضلاً عن القضايا الاجتماعية والسياسية ومستقبل شعبه وبلده.

وكان للمسرح الغنائي الرحباني جولات في جميع أنحاء العالم وفي العديد من البلدان، كما ساعد على إدخال جيلٍ جديد من المغنين والموسيقيين العرب إلى العالم، وساهمت أعمالهم الفنية في المناهج المسرحية للعديد من الجامعات الشهيرة بما في ذلك جامعة هارفارد Harvard وأكسفورد Oxford.

تزوج عاصي من فيروز في عام 1954، وأنجبا المؤلف والملحن زياد رحباني، وريم وهَلي وليالْ، وفي عام 1972 تعرض عاصي الرحباني لنزيفٍ في المخ وخضع لثلاث عمليات جراحية لإنقاذ حياته، وكان يتم حينها التحضير لمسرحية “المحطة”، وبمرض عاصي، غاب رُكن التلحين عنها.

وقام، حينها، الابن زياد الصغير ذي الـ 17 عاماً، بتلحين أغنية من كلمات عمه منصور، فكانت “سألوني الناس” بصوت فيروز، والتي جسدت حالة مرض عاصي وغيابه لأول مرةٍ عن عملٍ لهما في مقطع “ولأول مرّة ما منكون سوا”.

وعلى الرغم من شفاء عاصي غير التام، فإن عمله الشاق أثر على صحته النفسية، وعلى زواجه أيضاً الذي بدأ يتدهور، وحُلّت الشراكة بين فيروز والأخوين رحباني في عام 1979 حيث انفصل الزوجان بعد فترة من الخلافات وصلوا بعدها إلى هذا القرار، وبالفعل انفصلت فيروز عن عاصي في 1978، وعاش عاصي في رعاية بعض أقربائه.

وبعد افتراق الطرق واصل الأخوين رحباني عملهما الموسيقي مع فنانين آخرين، كانت تلك هي نهاية العبق الرحباني في أغاني فيروز، إلى أن توفي عاصي في 21 حزيران 1986، بعد أن أمضى عدة أسابيع في غيبوبة، وأُعلن حينها حالة حداد في لبنان إكراماً له.

واستلم في تلك الفترة الابن زياد الرحباني مهمة التلحين لوالدته فيروز بالإضافة لعدة ملحنين غيره، وأثّر غياب عاصي بفيروز حيث عاشت بعده بحزن رغم انفصالهما سابقاً، وفقاً لأحد حواراتها التلفزيونية، مات عاصي لكن موسيقاه لم تغب ولم تبهت بل رافقت الأجيال عناويناً راسخة لحالاتٍ متباينة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى