ثقافة وفن

تاريخ الألوان.. الجمال السامّ

تثير البهجة وترمز لها، ورغم ذلك فإن للألوان التي تزين تفاصيل الحياة من حولنا تاريخ “أسود”، جعل منها يوماً ما قاتلاً بطيئاً، متستراً خلف الإشراق الذي يضفيه.

استمد الانسان من الطبيعة معظم الألوان التي نعرفها، وحاول اختراع طريقة لمحاكاتها ونقلها إلى منزله وملابسه ومقتنياته الشخصية المختلفة، إضافة إلى اختيار لون محدد “مفضل” وطاغ على خياراته الأخرى تبعا لطاقته أو ارتباطه بالأبراج الفلكية أو مجرد منحه راحة نفسية حسب اعتقاده.

كان اللون الرصاصي الأبيض من أوائل الألوان التي شرع البشر في تصنيعها، وامتاز بمنحه الفنانين القدرة على مزجه بمواد أخرى والحصول على تدرجات مختلفة من الألوان، فلم تكن أهميته في لونه المجرد، ولكن في الاحتمالات اللانهائية التي تنتج عن دمجه بالألوان الأخرى.

واشتهر الرومان بتصنيع هذه الألوان، حيث أورد الكاتب الروماني “بليني” في إحدى كتاباته أنه “كان يتم مزج مادة الرصاص بالخل المركز وتجفيفه للحصول على بودرة اللون التي تصنع فيما بعد وفقاً للاستخدام المطلوب.

وكان تصنيع وبيع الألوان من أهم ركائز التجارة لدى الرومان، ودخلت في صناعة مستحضرات التجميل في الحضارة المصرية القديمة، واكتشف البشر فيما بعد أن تصنيع اللون الرصاصي بتلك الطريقة يترك بين طياته مواداً سامة يمكن أن تصل للإنسان عن طريق الشم واللمس أو التذوق عن طريق الخطأ.

وتسبب له ما يُعرف باسم “تسمم الرصاص” أو “مغص الرسامين”، وأعراض المرض تتجسد في الصداع، وآلام البطن والمفاصل وتشنج العضلات، وفقدان الوزن، بالإضافة إلى ارتفاع ضغط الدم، وإذا أصيب الأطفال بهذا التسمم قد يعانون من تأخر في النمو.

ومع ذلك ظل اللون الرصاصي الأبيض هو اللون الأكثر استخداماً لدى الرسامين حتى نهاية القرن التاسع عشر، عندما وجدت بدائل لهذا اللون الذي كاد أن يقتل مستخدميه، ولكن تلك البدائل لم تكن مماثلة لهذا اللون المميز، ولذلك البعض يستخدم هذا اللون حتى الآن ولكن مع اتخاذ الاحتياطات اللازمة.

وأكسبت النار بودرة الرصاصي الأبيض لوناً أحمر فظهر ما عرف “بالرصاصي الأحمر”، والذي تم استخدامه من قبل المصريين القدماء لرسم بورتريهات الفيوم الجنائزية، والتي وصفت بكونها أقدم لوحات تصوير الوجه البشري لما قدمته من ريادة في تصوير الوجه من الأمام وليس الـ«بروفايل» كما اعتاد الفنان المصري القديم.

ونظراً لاشتقاقه من المادة الأولى، شكّل اللون الأحمر الرصاصي نفس الخطر الذي سببه الرصاص الأبيض وهو “تسمم الرصاص”.

وبإضافة عنصر كيمائي معروف باسم “أنتيمون” إلى الألوان المصنوعة من الرصاص، حصل الانسان على اللون الأصفر النابولي، الذي شكل جريمة مشتركة بين اللونين السابقين.

والأنتيمون هو معدن فضي لامع، ويتميز مع أشكاله المركبة بالسمية الشديدة، ولذلك التعامل مع هذا اللون كان يعرض صاحبه للقيء الشديد والإسهال ونزيف الدماء وتهيج الأمعاء، بالإضافة إلى احتباس البول والتشويش وعدم التركيز وأحياناً الهلوسة، أضِف إلى تلك الأعراض تسمم الرصاص.

وظهر اللون الأصفر النابولي جلياً في لوحة للرسام الإيطالي “سلفادور دالي” والتي رسمها في العام 1945 تحت عنوان “الصلب”، في ذاك الوقت كانت بدائل اللون الأصفر النابولي الآمنة ظهرت في أوروبا ولم يعد هناك تعامل مباشر بين الفنانين وهذا اللون القاتل.

وفي العام 1814 طوّرت ألمانيا لوناً اصطناعياً جديداً من درجات اللون الأخضر، وكان اللون مشرقاً ولافتاً للأنظار ناشراً للبهجة وأطلق على هذا اللون الزمرد الأخضر نظراً لسطوعه الشديد.

وأعجبت النساء في أوروبا بهذا اللون خاصة إنجلترا خلال العصر الفيكتوري، حتى أشيع قول إنجليزي يصف مدى هوس إنجلترا في ذاك الوقت بالزمرد الأخضر بأن “إنجلترا تستحم بـ(الزمرد الأخضر)”.

ومن بعد انتشار اللون بين ملابس النساء وإكسسواراتهن؛ شق الزمرد الأخضر طريقه إلى الجدران والسجاجيد وديكورات المنزل.

ولكن هذا اللون المميز كانت له طريقة خطيرة جداً وشديدة السمية في تحضيره لأنه كان يمزج بالزرنيخ.

ولذلك وجدت المرأة التي اقتنت العديد من الملابس الخضراء؛ شعرها يتساقط، وجلدها تهاجمه القروح والجلطات، وإن استمر الأمر دون علاج قد يؤدي إلى فشل وظائف الكبد والوفاة.

وهذا ما تعرض له بالفعل الكثير من الأطفال الذين تواجدوا في حضانات مدهونة بهذا اللون، ليكون اللون الأخضر المحبب للنفس والذي نرمز به للسلام الآن، هو واحد من أهم السفاحين في العصر الفيكتوري.

ورغم ارتباط معظم الألوان بالفرح والبهجة، واتهام اللون الأسود بتسببه بالكآبة والحزن، يبدو أن ما يجلب البهجة يكون ضاراً في بعض الأحيان، بحسب رأي إحدى الرسامات.

رنا سليمان – تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى