فلاش

في 16 أيلول دماءٌ على جدران “صبرا وشاتيلا” تنادي عروقها: “تصبحون على وطن”

تمتلئ الذاكرة العربية والفلسطينية على وجه الخصوص بمحطاتٍ كثيرة من فصول جرائم العدو “الاسرائيلي”، من اعتقال وتعذيب وتنكيل والكثير مما سجله تاريخ القضية الفلسطينية لتبقى مراجعاً لمن يريد، لكن هناك من المحطات ما تقف كالغصة في حلق موثقها، تماماً كيوم السادس عشر من أيلول من عام 1982.

فإنه لمن غير الممكن أن يطوى يوماً كهذا اليوم الذي شهد المجزرة الأكثر فجاجة في تاريخ البطش “الاسرائيلي” في كتب التاريخ ليبقى حكراً عليها، و هو اليوم الذي ترتبط ذكراه بصورة جثث الشهداء المكدسة في شوارع ذلك المخيم، في حين كانت أرواحهم تلّوح في سمائه غير آسفة لوداع ما قدر عليها من لجوء.

في السادس عشر من أيلول 1982، كان مخيما صبرا وشاتيلا (جنوب بيروت) على موعد مع مجزرة استمرت لثلاثة أيام وأوقعت العشرات من المدنيين العزل شهداء، بينهم أطفال ونساء وشيوخ، وهي التي عرفت فيما بعد باسم “مجزرة صبرا وشاتيلا”.

وكانت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، أسست عام 1949 مخيم شاتيلا بهدف إيواء المئات من اللاجئين الذين تدفقوا إليه من قرى عمقا، ومجد الكروم، والياجور في شمال فلسطين بعد عام 1948.

وأصبح ذكر هذا المخيم مقروناً بالمجزرة التي سبقها حصار “إسرائيلي” لمخيمات اللجوء الفلسطينية، و انتهى بضمانات دولية بحماية سكان المخيمات العزل بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت، لكن الدول الضامنة لم تفِ بالتزاماتها وتركت الأبرياء يواجهون مصيرهم قتلاً وذبحاً وبقراً للبطون.

المجزرة وقعت في مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين (جنوب بيروت) وحي صبرا اللبناني الفقير، بعد يومين من اغتيال بشير الجميل، لتبدو كأنها انتقاماً لخسارة عميل “اسرائيلي”.

وجاءت مجزرة صبرا وشاتيلا بعد يوم من اجتياح القوات “الإسرائيلية” بقيادة آرئيل شارون (وزير الحرب آنذاك في حكومة مناحيم بيجن) غرب بيروت وحصارها المخيم، بناءً على مزاعم بأن “منظمة التحرير الفلسطينية التي كان عناصرها غادروا لبنان قبل أقل من شهر خلّفوا وراءهم نحو ثلاثة آلاف فلسطيني في المخيم”.

وقامت المجموعات اللبنانية بالإطباق على سكان المخيم وأخذوا يقتلون المدنيين قتلاً بلا هوادة، وكل من حاول الهرب كان القتل مصيره، 48 ساعة من القتل المستمر وسماء المخيم مغطاة بنيران القنابل المضيئة.

وارتكبت قوات الاحتلال “الإسرائيلي” والمجموعات اللبنانية مجزرة قتل فيها نساء وأطفال وشيوخ وشباب فلسطينيون عُزَّل، و غطت الجثث أراضي شوارع المخيم، قبل أن تدخل الجرافات “الإسرائيلية” لجرف المخيم وهدم المنازل لإخفاء الجريمة.

قدرت المنظمات الإنسانية والدولية عدد الشهداء؛ بينهم لبنانيون وعرب وغالبيتهم من الفلسطينيين، بما يتراوح بين الـ 3500 إلى 5000 شخص، من أصل 20 ألف نسمة كانوا يسكنون المخيم وقت حدوث المجزرة.

بينما يقول الكاتب الأمريكي رالف شونمان أمام لجنة أوسلو للتحقيق في تشرين أول 1982، “راح ضحية المجزرة بين أربعة آلاف وأربعة آلاف وخمسمائة شهيد من 12 جنسية حسب شهادة العدد الأكبر للشهداء من اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين”.

ويضيف شونمان “ولا يزال 484 من الضحايا بحكم المخطوف والمفقود ولم يعد أي منهم حتى الآن حسب المؤرخة الفلسطينية بيان نويهض الحوت في كتابها “صبرا وشاتيلا أيلول 1982”.

وبناء على أثر المجزرة وبما يشبه التمثيلية، شكل العدو “الإسرائيلي” لجنة تحقيق خاصة، وسميت “لجنة كاهان”، نسبة لرئيسها وأعلنت اللجنة عام 1983 نتائج البحث.

وأقرت اللجنة أن “وزير الحرب “الإسرائيلي” شارون يتحمل مسؤولية غير مباشرة عن المذبحة إذ تجاهل إمكانية وقوعها ولم يسع للحيلولة دونها، كما انتقدت رئيس وزراء العدو مناحيم بيغن، ووزير خارجيته اسحق شامير، وقادة المخابرات، مدعية أنهم لم يقوموا بما يكفي للحيلولة دون المذبحة أو لإيقافها حينما بدأت.

وعام 2002، قتل الوزير اللبناني السابق إيلي حبيقة في انفجار سيارة ملغومة في ضاحية الحازمية في بيروت الشرقية، وقتل معه في الانفجار ثلاثة من مرافقيه، و رجح مراقبون وقتها أن اغتيال حبيقة جاء بعد أن أبدى استعداده للإدلاء بشهادته أمام الجنايات الدولية حول مجزرة صبرا وشاتيلا.

ورجح المراقبون أن تكون الاستخبارات “الإسرائيلية” من قام بالاغتيال، علماً أن حبيقة يعد من أبرز قيادات حزب الكتائب اللبناني، وكان من أبرز المتهمين في مجازر صبرا وشاتيلا التي تشكل جريمة إنسانية لا يمكن محوها.

وعلى الرغم من فظاعة تلك الجريمة اكتفى مجلس الأمن باعتبارها “مجزرة إجرامية” تستأهل إرسال المزيد من قوات الطوارئ الدولية بالتنسيق مع الدولة اللبنانية ولم تتخذ أي إجراء بحق من ارتكبها، ليكون وقع ذلك الإجراء مدهشاً لدى من كان يعول على وجود منصفين.

أما اليوم، و بعد 34 عاماً على تلك المجزرة ربما أصبح أمراً مستغرباً هزلياً أن ينظر أحدهم إلى تلك المحافل الدولية على أنها المنصفة، وهي المتسترة دوماً على بدايات الجرائم إلى أن تفتح تحقيقات لتغسل وجهها بدماء الضحايا.

فهناك في مكان غير بعيد لا زالت تلك الدماء على الجدران، ولا زال أهل المخيم يتذكرون أدق التفاصيل، يتذكرون لحظة ضغط الزناد ولمعة نصل السكاكين، ولازالت الدماء توحي بالخصوبة، خضراء دائماً عابقة كما شتلات “الميرمية” الفلسطينية، تحيي الشهداء والمكلومين والثكالى بأن “تصبحون على وطن”.

روان السيد – تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى