فلاش

“معجزات” الحرب لا تنضب: حكاية الطفل الحلبي الذي اخترع ورداً أسود !

في أحد مقاهي مدينة اللاذقية، طفل لا يتجاوز عمره الـ 10 أو 11 سنة، يوقف الأحاديث المتشعبة والنقاشات لـ “شلة” من الأصدقاء، حاملاَ وروده الحمراء التي يرغب يبيعها، مثقلاً بحجمها الذي يخفي قامته القصيرة.

بائعة زنبق دمشق ليست فقط في ساحة الميسات، فرفاقها منتشرون في كل مكان تدفعهم الحاجة والحرب، وهو لأمر طبيعي أن ترى طفلاً يبيع الزهور، لكن ماليس طبيعياً هو ما أظهره الطفل من ردة فعل أمام الطلب التعجيزي الذي طلب منه من قبل أحد الجالسين للشراء منه.

اقترب الطفل بأدب يرافقه انحناء خفيف بظهره، كعلامة تودد، من جلسة الحوارات، لينهيها بكلمة واحدة: “بدك تشتري مني وردة حمرة”، ليجاوبه أحد الجالسين: “موافق بس بشرط، بدي وردة سودة حصراً، وانت ما عندك إلا ورد أحمر”.

ورد الفعل الأولى للطفل كان الاستنكار وشعوره بالاستهزاء ليقول: “ما في ورد أسود شو عمتضحك علي؟!”، ليصر المشتري على طلبه التعجيزي مجاوباً الطفل “مابعرف.. جبلي وردة سودة وهي قدام الشباب كلها رح اعطيك حقها 2000 ليرة.. ولا قلك جد 1000 ليرة لعيونك حق الوردة السودة”، (سعر الوردة 300 ليرة).

لم يجاوب الطفل ذو العشر سنوات إلا بعد “صفنة” استمرت لدقائق، ليؤكد على المشتري قائلاً: “ألف ألف أكيد؟”، ليجاوب الآخر “أكيد انت بس جيبا”.

ومضت حوالي ربع ساعة، نسيت “الشلة” الطفل، لتعود الأصوات المتناقشة للعلو، ويكسرها للمرة الثانية ذات الطفل وهو يدخل من باب المقهى وبيده وردة سوداء، راكضاً للشخص “التعجيزي” مبتسماً “وردة سودا، بألف ليرة متل ماقلتلي”.

هي نفسها إحدى وروده الحمراء، لكن مع رائحة “بويا أحذية” (منظف للأحذية)، فالطفل خرج مسرعاً من المقهى إلى شارع جانبي للمدينة الساحلية، مخترعاً وردته السوداء وشارياً علبة “بويا سودا” استخدمها لدهن أوراق الوردة كاملةً باللون الأسود، وعندما عاد كان لا زال ينفخ فيها لكي تجف لحين تسليمها إلى صاحبها.

وبالطبع وبكل رضى، سلم المشتري الألف ليرة للطفل الذي اتسعت بسمته واختفى انحناء ظهره معلناً انتصاره في “تجرة من تجراته”، مفتخراً بأنه كسر شرط تعجيزي وربح منه 1000 ليرة مقابل وردة و”لحسة بويا”.

ولم تنتهِ القصة هنا، فالمفاجأة الأكبر كانت أن الطفل وبكل براءة بعد أن حصل على ماله، قدم عرضه الأخير، مخرجاً علبة “البويا” من جيبه، قائلاً: “حدا لازمو علبة بويا لحذائو، حقها 400، ببيعو ياها بـ 300، استخدمتا مرة وحدة بس والله”.

نسوا أن يسألوه عن اسمه، أخذتهم الضحكات والمفاجأة ونسوا، كل ما عرفوا عنه أنه طفل نازح منذ سنوات طويلة من مدينة حلب، مرتب الهندام، مع شعر مصفف بطريقة جميلة ومهذبة، لا أوساخ تكسوه أو تبدو على ملابسه، سوى سواد “البويا” العالق على يديه في طلته الثانية.

ولسواد يديه قصة أخرى، فالطفل كان يحاول أن يخفيه وأن يمسحه بالورق الذي يلف ورده الأحمر، أملاً بأن لا يكشف حقيقة كيفية تحويله الوردة الحمراء إلى سوداء.

“لا تبيعا”، هذا ما أخبروه به، “لا تبيعا نصيحة خليها مشان إذا طلعلك حدا بدو وردة سودا يكون عندك الحل”، ليخرج الطفل مقتنعاً ومبتسماً، لا يرغب ببيع أي وردة أخرى لهذا المقهى، منتقلاً إلى مقهى آخر، ومسترقاً النظر لجيبه حتى يطمئن على الألف ليرة.

طفل بعمر الـ 10 سنوات، حرمته الحرب ومتسلقيها من أهم ما يحتاجه، وهو التعليم، فأي طفل بعمر بائع الورد المذكور يخيل لك أنه يجب أن يكون في المدرسة، فما الذي يمكن لطفل، بذكائه الفطري غير المصقول دراسياً، قام ببيع وردة تعجيزية، أن يفعل لو كان في المدرسة؟.

“المدارس لا تأتي بالمال لعوائل هجرت وخسرت كل ما تملك”، هكذا يرى البعض، “المدرسة بتستنى لتخلص الحرب، بس الجوع ما بيستنى ووراه الموت”.

يخرج الطفل تاركاً “الشلة” الصامتة الغارقة بالتفكير، “لو كان بالمدرسة شو كان عمل؟”.. وعلى من يقع اللوم.. لا علم لنا.. أحرب قتلت فينا ومنا ما قتلت سالبةً طفولة أجيال كاملة؟، أم بيئة منزلية همها النجاة؟، فقط النجاة، أم قطاعنا التربوي الذي يعيد تربية نفسه بعد أن عاش لسنين في مربى الحرب؟، أو يمكن أن تكون الحاجة ولا شيئ فوق الحاجة؟.

كل ما نعلمه أن طفلاً خرج من مقهى وأجرى برأسه عملية حسابية لسعر الوردة الحمراء مع سعر “علبة البويا” وما سيحصل عليه من الـ 1000 ليرة نتيجة تحويله الأحمر للأسود، متابعاً بعد صفقته حسابه لعدد الورود السوداء التي ستنتج له “علبة البويا” إن احتفط بها، وعدد “الآلفات” التي ستملأ جيوبه.

وفا أميري – تلفزيون الخبر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى