رياضة

نغولو كانتي و أندير هيريرا : الـ “box-to-box” مفهوم بديل للجمال الكروي

إذا حاولنا تشريح بنية فريق كرة القدم بمصطلحات معمارية، يمكننا تشبيه لاعبين كالبلجيكي إيدين هازارد لاعب تشلسي والسويدي زلاتان إبراهميوفيتش لاعب مانشستر يونايتد، بواجهة مبهرة بصرياً، مصنوعة من مواد فخمة باهظة الثمن.

أما أمثال الفرنسي نغولو كانتي لاعب تشلسي، والإسباني أندير هيريرا لاعب مانشستر يونايتد، فيمكن تشبيههم، وفق المقاربة نفسها، بالإسمنت الذي لا يظهر من خلف الجرانيت أو الرخام، إلا أنه يبقى مع ذلك العنصر الأهم في البناء.

ولكن حتى هذا التشبيه يفتقر هو الآخر إلى الدقة، فالإسمنت باهت و خالٍ من الحياة، و هذان اللاعبان هما أبعد ما يكون عن هذا الوصف، إلا أن الأكيد هو أن خلف كل لاعب كهازارد لاعب ككانتي، وخلف كل لاعب كإبراهيموفيتش لاعب كهيريرا.

وينتمي هيريرا وكانتي إلى نمط خاص من لاعبي خط الوسط، ويطلق عليه بالانكليزية اسم الـ”box-to-box” ومعناه حرفيا باللغة العربية “من منطقة الجزاء إلى منطقة الجزاء”، للدلالة على فعاليتهم في الهجوم والدفاع على حد السواء.

ويقدم اللاعبان هذا الموسم أداءا مميزا، يؤكده تصدر كل منهما لإحصائيات فريقه من حيث الدفاع، افتكاك الكرة من الخصم، إضافة إلى عدد التمريرات واعتراض تمريرات الخصم.

وكان كانتي الضلع الثالث، إلى جانب جيمي فاردي ورياض محرز، في مثلث الرعب الذي حقق المفاجأة الموسم الماضي بقيادته نادي ليستر سيتي إلى التتويج بلقب الدوري الإنكليزي الممتاز للمرة الأولى في تاريخه، تحت إدارة الإيطالي كلاوديو رانييري.

ويبدو أن كانتي يتجه لتحقيق لقب الدوري للمرة الثانية على التوالي، و لكن هذه المرة مع فريق تشلسي اللندني تحت إدارة إيطالي آخر هو “أنتونيو كونتي.

أما هيريرا فقد دخل موسمه الثالث مع اليونايتد، واستطاع أن يثبت نفسه أساسياً في التشكيلة مع المدرب السابق لويس فان خال، ثم مع البرتغالي جوزيه مورينيو، و كان لهيريرا دور أساسي في الصحوة التي يشهدها اليونايتد حالياً، و التي ترجمها بتحقيق ستة انتصارات متتالية في الدوري.

ومن المستبعد أن ترى أياً من هذين اللاعبَين يسجل هدفاً من كرة مقصية، أو يراوغ خمسة لاعبين من الفريق الخصم لينفرد بالحارس ثم يودِع الكرة في الشباك، ولكن ماذا لو طرحنا السؤال من جهة معاكسة تماماً، هل يمكن تخيل إبراهيموفيتش أو هازارد و هو يقطع الملعب جيئة و ذهاباً لمدة تسعين دقيقة، ليفتكّ الكرة من الخصم في طرف منه، ثم يصنع هدفاً في الطرف الآخر؟.

لابد أن لاعبين مثل هازارد أو إبراهيموفيتش يخلقون لحظات تاريخية هي التي تعطي كرة القدم جاذبيتها الاستعراضية وشعبيتها الكبيرة، لحظات ترسخ في الوعي الجمعي لمتابعي الكرة، و تحتل مكانة يمكن تشبيهها، بدون مبالغة، بمكانة الأغاني الفولكلورية الخالدة.

فالفطرة العبقرية، والسحر السلس الخالي من العناء، واللمسة المخملية، كل هذه تجتمع في لقطة ما، لتقدم لك هدفاً مثل هدف مارادونا في مرمى إنكلترا عام 86، أو النسخة الفوتوكوبية عنه التي قدمها ميسي ضد خيتافي بعد 21 عاماً.

لكن نموذج الـ”box-to-box” يقترح نمطا مختلفا من الجمال، يقوم على صفات مغايرة تماما، الذكاء الأكاديمي المصقول بالتدريب في مقابل الموهبة الخالصة، والكدح في مقابل الاسترخاء، وأداء المهام العادية بشكل مذهل في مقابل تقديم مشاهد مذهلة بسهولة تجعلها تبدو عادية.

نحن أمام نوعين من الجمال، الأول يمتاز بالكثافة، و ينفجر على شكل لحظات إعجازية، فيما الثاني يدوم فترات طويلة من المباراة أو حتى مباراة كاملة، و يبني تأثيره في المتابع بشكل تراكمي، الأول يتميز بقوة عنصره البصري، والثاني يرتكز إلى مقومات عمليّة-أدائية.

ويعوض لاعب الـ”box-to-box”افتقاره للابهار من خلال عاملين أساسيين ليبني جماليته الخاصة، أول هذين العاملين هو الاستمرارية، فلا يثير اللاعب في المشاهد أي انطباع عندما يقاتل على الكرة ويفتكها للمرة الأولى، لكنه بالتأكيد يترك هذا الانطباع عندما يفتكها للمرة الخامسة أو السادسة في التسعين دقيقة على سبيل المثال.

أما العامل الثاني فهو تنوع المهام، فلاعب الـ”box-to-box” لا يؤدي مهمة معينة بشكل خارق، لكنه يؤدي العديد من المهام الدفاعية والهجومية بشكل جيد جدا، قدرات لا تثر كل منها على حدة أي نطباع مميز، ولكن باجتماعها معا في لاعب واحد جمالية فريدة.

من جهة أخرى، يؤدي هؤلاء اللاعبون أدوارهم بصمت، فهم من يكتبون السيناريو و يمسكون بالخيوط، و لكنهم يرتضون لأنفسهم دور الكومبارس، تاركين للآخرين النجومية المطلقة، والجندي المجهول يفيض بسحره الخاص، الذي يختلف عن سحر “سوبرمان”، و لكنه لا يقل عنه تأثيراً.

هكذا يصنع لاعب الـ”box-to-box” لنفسه صورة خاصة تتناقض مع الصورة النمطية للاعب النجم، وتماما هنا يكمن جمالها، فإذا كان أمثال ابراهيموفيتش و هازارد يوصفون بأنهم من عالم أخر، فإن أمثال هيريرا وكانتي هم لاعبون من هذا العالم بامتياز.

 

جواد يوسف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى