فلاش

احكيلنا عن حلب

هو سؤال يعرفه ويألفه كل من زار “سيدة المدن”، أي شخص زار حلب مؤخرا يواجه بهذا السؤال، من الحلبيين أو من غير الحلبيين على حد سواء.

والسؤال بحد ذاته لا يشكل أي ازعاج، ولا الإجابة أيضا قطعا ستسترسل بها، المزعج هو اضطرارك لإعادة تجميع أفكارك وترتيبها كي يكون حديثك متوازنا، وبطبيعة الحال أول جملة من الإجابة ستكون “من وين بلشلك؟”.

والكلام عن حلب هنا يشمل الأحياء الغربية منها، أو ما كان يعرف بحلب الحكومية أي المناطق التي ظلت خاضعة لسيطرة الدولة، على أن تستكمل الزيارة والكلام عن أحياء حلب الشرقية التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيمات المتشددة في مقال لاحق.

الزائر لحلب لأول مرة قد لا يصدق، مثلي، أن هؤلاء الناس عاشوا ويعيشون حربا، فبخلاف الدمار الذي تشاهده هنا وهناك، خصوصا في نقاط التماس، فالشعب في “كوكب حلب” له صفة واحدة، “فرايحي”.

من النادر أن تجد حلبياً اليوم عابس أو مكفهر الوجه في الشارع، في حلب تحس أن الجميع وصل لمرحلة من الاقتناع أن “الحياة ماشية فينا وبلانا”، والكل يستقبلك بابتسامة، خصوصا إذا ما عرف أنها زيارتك الأولى للمدينة.

ومحبة الحياة بالنسبة للحلبي مقترنة بشي أساسي هو العمل، حلب مدينة تحث وتحض باللاشعور على المضي للامام، ترى الجميع يسعى، الوحيد الذي تراه واقفا هو أنت، تنظر للوقت والناس يمرون من أمامك.

ولعل أول ما يخطر ببال الذي يزور حلب لأول مرة هو كثرة الدوارات، “بين الدوار والدوار في دوار”، حتى أن أحد الدوارات بني على “نزلة” ببساطة سموه “دوار المييل”، أي الدوار المائل، و”كفو حياتن طبيعي الجماعة”.

ما يميز المدينة هو الطابع المعماري، فالأبنية في أغلب الأحياء التي زرناها في حلب تضج “أبهة” وفخامة، خصوصا في الأحياء التي تعد راقية، أحد الحلبيين قال لنا عن بناء القصر العدلي القريب من القلعة أن الحلبيين كانوا يكرهونه لأن بني بلا طراز معماري، فالحلبيون لا يبنون بلا طراز.

وللدمار حصة كبيرة في الذكريات عن حلب، وللدمار في المناطق التي تقع شرقي حلب قصة أخرى ومقام أخر، ومن زار حلب قبل الحرب وعاد ليزورها اليوم بالتأكيد سيفاجأ بحجم الدمار الكبير خصوصا في المناطق التي تعتبر خطوط تماس، وأبرزها الخط عند قلعة حلب.

“هاد المكان كان في الكارلتون”، “هي يلي بعد هاد السور المدرسة الخسرفية”، قد لا يصدق من يرى الركام في المكانين المذكورين أنهما يوما كانا على قيد الحياة، الكارلتون والخسرفية اليوم ركام فوق ركام، الزائر لأول مرة قد لا يفهم الغصة التي يشاهدها على وجوه الحاضرين.

ولكن بعد مراجعة الصور للمناطق المهدمة، بداية لن تصدق ما ترى، الألوان التي في الصور لا تتطابق مع الرمادي المنتشر على الواقع، أحد الأصدقاء عرفنا على ساحة تسمى ساحة الحطب بقوله “شييف هالجورة هي”، مشيرا لحفرة بعمق أكثر من أربعة أمتار، “هي ساحة الحطب خيو”، من ير الحفرة ويرى صورة ساحة الحطب سيعرف جيدا معنى كلمة حرب.

ولكن الدمار نفسه لا يهم الحلبيين، فالجين المسؤول عن العمل في مورثاتهم لا يضم في ثناياه شيئا عن الوقوف على الأطلال، أبو بكري الأفندي كان يحدثنا بالقرب من القصر العدلي ويدلنا على “حوشه وحوش بيت عمه” القريب، والحوش في حلب هي كلمة معناها البيت.

أبو بكري يعمل كهربائي، أتى لبيته ليستطلع الأمور ويعرف “ايمت فينا نرجع ونفتح حوشنا ونبلش شغلنا”، لم يأت للوقوف على أطلال بيته، أتى ليقدر كم من الوقت يحتاج لاصلاح البيت والدكان ليعود لممارسة حياته.

أحد الشباب في حلب قال لنا وبكل “رواق وأريحية” أنه ينتظر فقط أن تهدأ الأوضاع لفترة وتسمح الدولة بإعادة العمل في الخانات والدكاكين والمحلات، “أنا ما بدي تعويض لا من الدولة ولا من غيرا، خيو بدي يتركونا نشتغل وبس”.

وأضاف الشاب بثقة “خيو هون قلال من التجار أو الصنايعية يلي بيتطلعوا ع التعويض، تعويض اشو ؟ بطالعو بيومين لو في شغل ماشي”، وأردف قائلا “يخلونا نرجع نشتغل وبس، خيو نحني رح نستفاد أكيد بس كمان الشعب كلو بيستفاد، بنطلونك هلق حقو عشتالاف بس اشتغلت حلب بتجيبو بخمسة”.

وعلى سيرة الدولة، بعد التأكيد أن الحلبي في تعريفه عن نفسه يقول أنا حلبي بعدها يقول أنا سوري، وجود الدولة والحكومة في حلب هو أقرب للفخري، المواطن في حلب لا كهرباء لديه ولا مياه و”ع شوي ما في هوا” من الدولة، ما رد فعله؟.

الحلبي قطعت عنه الكهرباء فبادر للاشتراك بالأمبيرات، قطعت المياه اتجه نحو الصهاريج واخترع اختراعات لتوفير المياه ، السيئة الوحيدة في قلة وجود الدولة خدميا هو أن الأمبيرات تقطع عند 12 ليلا فيضطر الحلبيون للعودة لبيوتهم.

ولكن قبل الساعة 12 ليلا يوجد حوالي 18 ساعة في حلب، وهي وقت لا يضيعه الحلبيون في رثاء “النايت لايف” في المدينة التي كانت لا تنام، المقاهي والمطاعم “ع تما مليانة”، ولا يهم إن نزلت قذائف أم لا، “هون بعيد شوي نزلت قذيفة”، قالت إحدى الصديقات، “شو عملتي؟”، كان سؤالي، “زبطت الفحمات” كان جوابها.

ولكن النقطة الأساس والأهم في زيارتك لحلب هي ستكون بطبيعة الحال “الأكل”، ماذا تعرف عن الطعام والأكلات في العالم ؟ شرقية كانت أم غربية ؟، صدق هي موجودة في حلب، لا بل ومعروفة، لا يوجد “أكلة مخباية” في العالم إلا والحلبي بيعرفها و”دايقها وما عاجبتو، وأمو بتطبخها أحسن”، كلام لا نقاش فيه.

في إحدى الصباحات عزمنا أحد الأصدقاء الحلبيين على الفطور، في كل أنحاء العالم الفطور هو “شي خفيف لتبلش نهارك فيه”، إلا في حلب، “الجماعة بيفطروا شعيبيات وزلابية ومامونية”، ولكن للأمانة وجد في حينها “كم صحن” لبنة وحمص وجبنة.

الأضداد تجتمع على طاولة الطعام في حلب، فالمامونية الحلوة والتي تحلى “زيادة” بوضع القشطة على وجهها يأكلها الحلبي مع “جبنة مشللة” مالحة، “باكل قشطة مع جبنة مالحة”، بدا لي سؤالا منطقيا لأسأله، لحظة سكوت، “مو دييق اللحمة بكرز انت يعني؟”، كان جوابا سريعا ومقنعا.

الصورة السيئة عن المدينة التي صدرت عبر وسائل الاعلام، والتي استغلت وضعا غير طبيعي مرت فيه المدينة، الحلبيون واثقون أنه باستطاعتهم إزالتها، “شمسنا ما غربت من مدري كم سنة لتجي تغرب هلق”، قالها صديق لي حلبي قبل مغادرتي، هو مقتنع كأجداده بها، وأنا رأيت بعيني ما يجعلني أعرف أنها حقيقة.

في النهاية لابد لك من السؤال، ما الفائدة التي جناها الحلبيون من الحرب ؟ ما الذي يبرر كل الخسارات في الارواح والذكريات ؟ وخصوصا في الأحياء التي كانت تحت سيطرة المسلحين؟، أحد الأصدقاء الحلبيين قال لي يوما أنه وخلال عمله مترجما لأحد الصحفيين الامريكيين في تركيا، التقى بأحدهم الذي ادعى أنه هو من قام بتصوير مقطع الفيديو الذي يبين تفجير مشفى الكندي.

الصحفي الامريكي قال أنه يعمل مع إحدى وكالات الأمم المتحدة وسأل ببراءة وصدق الشاب عن السبب الذي دعاه للمشاركة في “الثورة”، فكان رد الشاب “بدي نصير حضاريين بدي يصير عنا ميترو وبرجيات”، فرد الصحفي بكل بساطة “هل تعلم أنك شاركت بتفجير مشفى؟، تدمر مشفى لأنك تريد أبنية وميترو؟”.

لا يغر أحد طريق حلب الحالي، أثريا-خناصر، وما يشاهده من خراب وبؤس ودمار، ولا يغر أحد مدخل حلب من جهة الراموسة، الذي يشبه أكثر ما يشبه ما نراه في الأفلام الامريكية عن مكبات النفايات ومكابس السيارات، فبعد بحر البؤس والرماد هناك جزيرة سعيدة برغم كل الأحزان.

في العالم هناك مدن لها طابع وهوية، والكلام هنا يشمل الأحياء الحلبية كلها شرقية كانت أم غربية، إذا ما عشت فيها لفترة من الزمن تطبعك بطابعها وتعطيك هويتها، ومن الصعب أن تستطيع اخراجها منك، حلب بالتأكيد إحداها، “احكيلنا عن حلب؟”، “من وين بلشلك؟”.

 

علاء خطيب – موفد تلفزيون الخبر إلى حلب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى